ليالي عنان.. أو هجائية الماضي للحاضر

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

عبد الوهاب أبو زيد

بعد مسيرة حافلة وليست بالقصيرة مع الشعر، آثر الشاعر والكاتب المعروف حسن السبع أن يدخل إلى عالم الرواية من باب التاريخ، وذلك في روايته الصادرة حديثاً «ليالي عنان»، من دون أن يعني ذلك أنه يكتب رواية تاريخية بمعناها ومبناها المألوفين، وهو الأمر الذي درج بعض الروائيين على فعله وحققوا نجاحات بارزة وقيمة في هذا الفن، الذي يفتح النوافذ والكوى لنطل منها على أزمنة مضت وانقضت، ولم يبق أثر منها إلا في بطون كتب التاريخ ومدونات المؤرخين.
ما فعله السبع هو أنه فتح نافذة رحبة على حقبة مضيئة وثرية من حقب التاريخ العربي، أو أنه بحسب تعبيره هندس «مهجراً زمنياً في أزهى العصور العربية»، في نص سردي هو «مزيج من الواقع والحلم والأدب والتاريخ والفنتازيا والماضي والحاضر»، بحسب تعبيره أيضاً. وقد لا يعرف كثيرون أن السبع بدأ حياته الأدبية بنشر مجموعة من القصص القصيرة قبل أن يتوجه كلياً للشعر، كما أشار إلى ذلك في أحد حواراته الصحافية في ما أتذكر، فهو بذلك ليس غريباً أو دخيلاً على عالم السرد الذي اجتذب إليه عدداً لا يكاد يحصى من الشعراء وغير الشعراء كما بات معروفاً. ولعل ما يميز الشعراء الذين يتوجهون لكتابة الرواية أنك لن تخرج خاسراً خسارة كلية من قراءة أعمالهم الروائية لناحية واحدة على الأقل هي سلامة اللغة وجماليتها، التي لن تجد لها أثراً، لدى الدخلاء على عالم الرواية وهم كثر، كما لا يخفى.
فكرة الرواية تدور حول الرحيل إلى الماضي والسفر في الزمن، إذ يقوم بطل الرواية، ومن يدير دفة السرد برحلة عكسية إلى عصور سابقة (القرن الثاني الهجري تحديداً) برفقة أبي الفرج الأصفهاني، صاحب الأغاني الذي عاش في القرن الرابع، في «محاولة لجعل اللحظة الماضية حاضرة ونابضة بالحياة».
نتعرف خلال هذه الرحلة المتخيلة والفنتازية على شخصيات تراثية أدبية وشعرية على وجه التحديد، كانت على صلة ببعضها بعضاً، بدرجات متفاوتة من التنافس والجدل والصراع. أبو محمد الناطفي، وأبان اللاحقي، وأبو نؤاس، وسلم الخاسر، ومروان بن أبي حفصة، والعباس بن الأحنف، والحسين بن الضحاك هم بعض أبرز الشخصيات التاريخية التي يستحضرها الكاتب أو يذهب إليها ليكون في حضرتها، في مجالس الأدب وليالي السمر الحافلة بالحكايات والطرائف والمماحكات والصراعات الخفية والمعلنة.
يقول الكاتب في وصف رحلته: «هذه المغامرة مزيج من الحاضر والماضي، من الواقع والفنتازيا، من التاريخي والمتخيل، من المادي والحلمي، وهي مغامرة نعبر بها إلى الماضي على جسر الحاضر، ونراه بمصباحه، ونتأمل فيه بمعاييره، من دون أن نحنط الذائقة بالموروث، أو نسجن أنفسنا بين جدرانه».
من الشخصيات الشيقة والضاجة بالحياة والحيوية في الكتاب شخصية «شيمو»، أو أبو الشمقمق، الشاعر الهجاء الذي لم يسلم من لسانه السليط أحد، الذي لم يكن حتى أعتى شعراء الهجاء قادرين على مجابهته، فعمدوا لاتقاء شره و«قطع لسانه» بدفع مبالغ مالية سنوية يشترون بها سكوته عنهم، فكان على النقيض من شعراء عصره يتكسب بقصائد الهجاء وليس المديح كما جرت العادة. شخصياً، أعتقد أن هذه الشخصية الغنية بأبعادها جديرة بأن تفرد بعمل سردي مستقل، يستجلي جوانبها كافة، ويبرز جل سماتها.
يتحدث الكاتب عن دار السلام بغداد، وما كانت تضمه من خليط متمازج من الثقافات والقوميات والأعراق والديانات من عرب وفرس وأتراك وهنود وديلم، وأفارقة ومسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة ومجوس. وهو خليط «يجسد شكلاً من أشكال التعايش الاجتماعي ما أحوجنا إليه في هذا العصر الموبوء بالكراهية والعصبيات والعنف، إذ يشكل الاختلاف والتنوع قلقاً أو إزعاجاً لضيقي الأفق ومرضى العقول الذين يحولون الاختلاف إلى خلاف، الذين يريدون أن يجعلوا العالم نسخة مشابهة لهم». خلاصة القول إذاً، هو أن حسن السبع حاول أن يقدم لنا في «ليالي عنان» رواية تعود إلى جمال الماضي لتفضح وتعري به قبح الحاضر الذي يزداد قبحاً كل يوم. وقد حقق، فيما أظن، نجاحاً كبيراً في ذلك. وهو ما يدفعنا لانتظار روايته أو عمله السردي المقبل بكثير من الترقب.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى