ليندا نصار تفتح عزلتها الشعرية في جامعة عبدالمالك السعدي المغربية

سكينة العسري
استضافت شعبة اللغات، في رحاب المدرسة العليا للأساتذة – بمرتيل جامعة عبدالمالك السعيدي، الشاعرة اللبنانية ليندا نصار في إطار “تجارب إبداعية” الحلقة 53؛ وذلك بمناسبة صدور ديوانها الأخير الموسوم بـ “لأني في عزلة” الصادر عن دار العين للنشر في مطلع هذه السنة.
وقد سير هذا اللقاء الباحثة سكينة العسري فيما قدم تجربتها الباحث عادل العناز الذي قسم مداخلته إلى محورين: الأول وسمه بخطاب العتبات وتطرق فيه إلى عتبة العنوان والغلاف والتصدير، والتي تعمل على توجيه بوصلة المتلقي نحو متاهات العزلة، والتوحد، والتأمل، والتصوف، والبعد، والخوف؛ ذلك أن تجربة ديوان لأني في عزلة لا يفتر عن التغني بـ “الذات الشاعرة وما يعتريها من انكسارات وانشطارات وجودية تهشم كل معاني الحياة؛ حيث تصير العزلةُ هي المرفأ الوحيد الذي نرسي فيه خساراتنا، عبر انتشال ذواتنا من صخب الخارج المُشَيّئِ لكينونة الكائن البشري في تفاعله اليومي مع الأشياء، والمعتقداتِ، والأغيار.
إذ يصبح هذا التفاعل بمثابة جحيم يفقد الذات جوهرَها وتوهجَها، جراء القسوة التي أصبحت اليافطةَ الكبرى للإنسانية في تجليها اللاإنساني، قسوة يطبعها الجحود، والإنكار، وتفنيد الآخر وتهميشه، وصرعه، هو ما يدعو في الغالب إلى اعتزال جحيم الغير، والسعي إلى القبض على جنة الذات في هشاشتها، وعنفوانها، ورأفتها التي لا تكون إلا بالمصالحة معها، عبر ترك كلِّ ما يقوضُ كبرياءها.
وقد اختارت الشاعرة سبيل الانزواء في الداخل والمكوثِ في حيز الوجدان والفؤاد بوصفه المكانَ الأنسب لترتيق الفتوق الغائرة الناجمة عن القدر أو الغير كما رسمه سارتر”.
أما المحور الثاني فقد وسمه الباحث عادل العناز بـ “تأويل الذات والعالم”، متطرقا إلى الحضور القوي للذاكرة في تعالقها مع الذات والعالم؛ فالشاعرة لا تهادن خطاب الماضي، تقول في قصيدة “هل أغلق بابَ الذاكرةِ علي؟”:
أوقفتني فزاعة في منام عَبَّادِ الشمس،/ لم أُخف طائرتي الورقية،/ ولا سلّم الصعود إلى سطح الوعي/ وقفت في وجه الكثافة/ أرتق ثقبا في مرآة الأمس/ لم تكن حكاية جدتي قد صارت خمرا بعد/ أو كَرْمَةً في الحقل/ أين اختبأ الليل يا جدتي؟/ البئر تنتظر من يفتح بابها الحديدي”.
يتجلى الانعكاسُ القويّ لمكون الذات في تفاعله مع الأمس الغائب، هذا التفاعل الذي يُبنى على جمر السؤال، فاختفاء الليل الذي تسأل عنه الذات الشاعرةُ جدتَها لا يمكن إلا أن يكون في هذا السياق رمزا للذاكرة وظلامها السرمدي، الذي يسبتد بنا في هيئة حنين لا نخطئ الطريق إليه، مهما ادعينا إيداعه زنزانة النسيان.
وقد عملت الشاعرة على تدبيج قصائدها بأيقونات رمزية بليغة تفتح حيز الشعر على تأويلات لا نهائية؛ حيث تقول:
“خشبة ثلاثية الأبعاد/ لا تبعد عن حافة الكأس/ هي أقرب إلى أن تكون الأخيرة/ لم يكن هناك أحد يمثل،/ فقط ظل وضوء أسود،/ وباقة ورود بلاستيكية”.
من خلال هذا المنطوق يظهر أنها توظف قوة الرمز من حيث قدرتُه على توليد معاني تفتح شهية التأويلات بالنسبة للمتلقي الحاذق، فالخشبة ذات الأبعاد الثلاثة التي وردت في هذه القصيدة، ترمز إلى ثالوث الديانة المسيحية، المتجلي، في الآب، والابن، والروح القدس، كما ترمز إلى المحرم المتبدي في”الجنس، والدين، والسياسة”.
وخلص الباحث عادل العناز إلى أن الشاعرة ليندا نصار استطاعت أن تجعل من ديوان “لأني في عزلة” تجربةً فذة، لكونها استكانت في بناء هذا الديوان إلى كتلة من التصورات الثقافية ذات مرجع يتأرجح بين المقدس والمدنس، كما عملت على استحضار ثقافتها الموسوعية التي لا تقف عند مجال بعينه، فالمتلقي يصطدم إزاء عملية التلقي بالأسطوري في عشتار ونرسيس بوصفهما تجليا للجمال، وبالتاريخي في بيلاطس والناصري، وباللاهوتي في إيليا أو نبي الله إلياس، وبالأدبي في علاء الدين وبودلير، وبالتناص في شخصية زوربا، التي يتنفس الديوان ميسمها وفلسفتها في الحياة، ويتجلى ذلك في اللغة الموسيقية التي تستخدمها الشاعرة في عناوين قصائدها ومنطوق كلماتها، فالديوان ابتُدئ بنوتة موسيقية وانتهى بقيثارة تعزف نغم هذه العزلة.
أما مداخلة الشاعرة والباحثة البنالنية ليندا نصار، فقد وسمت ورقتها بـ “العزلة وجغرافيات الإقامة في الذات”، كاشفت فيها الحضور النوعي الذي تميز بحضور ثلة من الأساتذة الجامعيين، والباحثين، والأدباء، وطلبة ماستر مقاربات النص الأدبي وفنونه عن علاقاتها الوجودية بالقراءة والموسيقى، وتأمل الشعر باعتباره رصدا واستغوار للكائن الجميل فينا على الرغم من بشاعة المشهد، وضرورة تعويض نقصه وخرابه؛ ذلك أن وجد نفسه في مواجهة ذاته وإمكاناته التعبيرية الخاصة، حيث ترجمت دهشتها أمام وضعية التلقي وإنتاجيتها المتصلة بالحفريات التي قدمها الباحث والطلبة الذين فككوا بنيات خطابها الشعري بملاحظات دقيقة، وأسئلة شيدت أفقا جديدة لضرورة التواصل مع الجيل الجديد وقلقه الجمالي. مستعيدة تجربة السفر والحدود الوهمية الرابطة بين بيروت وتطوان، وفي المسافة بينهما كانت تبني صورا أخرى لترميم الذاكرة من ويلات الحرب التي تحفظ آثارها في ممكن الكتابة باعتبارها علاجا ضد كل أنزيمات القتل الرمزي والمادي.
معترفة في السياق ذاته، أن تجربة الحضور إلى المغرب منحتها الحق في أن تكون ذاتا تستشرف ما هو ملهم في رصد تفاصيل العبور، وشحنه برمزية لا تقف عند حدود اللحظة، بل تبلوره في سياق المسافة الجمالية التي تدفعها في كثير من المرات إلى ممارسة صوغ مضاعف للذات والعالم.
إن “تجارب إبداعية” أداة حضارية لتجسيد ثقافة الحوار بين الأجيال، وبناء التفاعل مع الآخرين إبداعيا ونقديا، شاكرة الدكتور عبدالرحيم جيران، والطلبة الذين أغنوا هذا اللقاء الثقافي المنتج في هذا المليء بالمحبة. لتختتم أنها كانت سعيدة بأن تعانق ديوانها الجديد في جامعة عبدالمالك السعدي التي فتحت عزلتي على الحق في الحلم من جديد.
(ميدل ايست اونلاين)