مارتن هيدغر وتأويل الأثر الفنّي مارتن هيدغر وتأويل الأثر الفنّي

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات – 
إنّ عبارة غادامير في كتابه “شعاب هيدغر”Hans- Georg Gadamer, Les chemins de Heidegger: “هيدغر مفكر يرى” تبيّن بأن قوة فلسفته تقاس بما أبدعه من مفاهيم فلسفية خاصة مفهومي الوجودي والوجوداني ورؤيته تكمن في قدرته على تطويع اللغة التي تستنطق الوجود من خلال الكينونة. فالكينونة والوجود هما سيّان. وبالتالي نسيان الوجود هو متضمن في نسيان الكينونة وإعادة الإعتبار إليها لا يتأتى إلاّ بالبحث عن سؤال معنى الكينونة هذا السؤال اللامفكر فيه ميتافيزيقيا. فـالكينونة التي خلّصها هيدغر من الخلط بينها وبين الكائن التي وقعت فيها الميتافيزيقا من أفلاطون حتى نيتشه آخر الميتافيزيقيين بعبارة هيدغر. ومن هذه التفرقة تولد الإختلاف الفلسفي بين الوجودي والوجوداني، بين الأنطيقي والأنطولوجي، بين اللاأصيل والأصيل، وهو اختلاف في المصطلح والعبارة، لكن لا يمكن المرور إلى الأصيل الحقيقي « authentique »إلاّ عبر اللاأصيل« inauthentique » الغير حقيقي، فـالدّازينDa-sein هو كينونة الكائن الذي هو نحن كلّ مرّة، هو دائماً كينونة- في- العالم أو كينونة الفيّة، بمعنى ينخرط في العالم ويولد من رحمه بوصفه ظاهرة تترك الكينونة تظهر داخل العالم وهو ما يتجسد في لوحة الرسام فان غوغ. بيد أنّ ما يظهر في الكائن العالم غير بيّن للعيان أو متجليّ للأذهان وما نصادفه هو الكائن الطبيعة، الأشياء، الأشخاص، غير أنّ الكينونة تتمنّع عن الظهور والإكتشاف لذلك تتبدى لنا كـكينونة – تحت – اليد Zuhanden أو بإعتبارها قيمومة تحت الأشياء التي نلاقيها بقدر ما تتوارى خلف الإنشغال Vorhanden، إنشغال الدازين بقدر ما تتجلى كينونة- تحت –اليد وتبدو من خلال استعمال الحذاء من طرف الفلاح الذي ينشغل بالعمل ولا يدرك أنه كينونة منخرطة في العالم تحمل بداخلها حقيقة الوجود ومفاتيحه الملغزة وبالتالي تنبثق حقيقة كينونة الدازاين من خلال وقائعية الدازين ككينونة في العالم. فالحقيقة تكمن في الأثر الفني، تختفي في ثنايا لوحة الحذاء للرسام فان غوغ، إذ تتعلق الأرض بالسماء والآلهة بالإنسان، فحذاء الفلاح منفتح على خريطة السماء ومنشد إلى تراب الأرض يربط الإنسان بالأرض والإنسان بالإله وكأنه “لا منقذ للإنسان إلاّ الإله” كما يقول هيدغر هذا الكامن في الإنسان بإعتباره حقيقة تنكشف من خلال أثر لوحة الحذاء لفان غوغ. فتأويل الأثر الفني يكشف عن إلتقاء الحقيقة بـالجمال.إن هيدغر يريد للواحد منا أن يستفيق على كونه كينونة تنخرط في الوجود وتكون حاضرة فيه حضورا مباشرا غير معتما ولا ملتبسا، كينونة منفتحة تتسع لحمل العالم الذي تقيم فيه إقامة جبرية “الإنسان ملقى في العالم” ولكنها حرّة تستطيع تأويل العالم على النحو الذي يجعلها مبدعة وخلاقة. يسميها الدازين أو الكينونة-هناك، أي في العالم، ومن خلال تأويله لكيفية إقامة الدازين في الوجود ووصف انشغالاته وتقلباته داخل الوجود في إلتقائه بالأشخاص أو بالكائنات أو بإنشغاله في اليومي وتجربته التافهة والمبتذلة لا يمنعه ذلك من خوض تجربة الوجود كمغامرة يتشابك فيها الأنطولوجي بالجمالي وهو ما سيتجلى في قراءته لشعر هولدرلين ولوحة الرسام فان غوغ. ففي تجربة الشعر تتجلى الحقيقة في الأثر الفنّي بما هو مخبأ للحقيقة، بما هي انكشاف تتعانق فيه السماء مع الأرض، الإله مع الإنسان، الخيال مع الواقع، الظلمة مع النور، تتسع فيه الرؤية للآفاق البعيدة وتضيق فيه العبارة فتصير شعرا، يولد منه أكوان جميلة قريبة منا بعيدة عنا، نطلبها فلا ندركها، نبدعها وننحتها من صميم تجاربنا لتكون منبعا ومسلكا وطريقا نحو فهم وجودنا الذي تلفه الألغاز وهو يحثنا بإستمرار على تأويله والتقاط معانيه المتناثرة في رحمه من البدء حتى النهاية، من الولادة حتى الموت، من الوجود حتى العدم، فلا حقيقة خارج الأثر الفني، سواء اختبأت في الشعر أم في الرسم أو في النحت، فالعالم يتصاغر بحجمه داخل اللغة بصخبه وعنفه يتحول إلى إبداع شعري أو إلى لوحة فنية يكشف عن حقيقة الدازين وتجربته الوجودية والوجدانية بداخله، يعبر عمّا هو أصيل وعمّا هو غير أصيل فيه. حينها يظهر لنا الوجود ملتحما مع الجمال والحقيقة تتداعى فيها البطاقات الملصقة على جدار الوجود وتختفي الأشياء وتتجلى صورة الإله الأخير الذي سينقذنا من وطأة ميتافيزيقا التقنية الشريدة. تلك هي أفضل العوالم الممكنة بعبارة لايبنيتز التي يكشف عنها الشاعر الألماني هولدرلين في قصائده الرائعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى