ما يقوله الشعراء يسجله العالم

علي ذرب
غريب هذا الترابط العميق بين العراق والشعر، فالعراق مكان متوتر ومشتعل بالحروب، لكنه هنا يجرنا لنشهد عصرا جديدا من التحولات اللافتة لبوصلة الشعر العربي كله، الشعر بصفته خطابا ثقافيا يحمل بين طياته تحولات في العقلية الشعرية، حيث كف الشعر العراقي عن رومانسيات بدر شاكر السياب، وكف عن تغييب الواقع، فاستبدل الألعاب اللغوية الستينية بالمشهد اليومي للحقيقة المعيشة كما هي من دون لبس أو تزييف، وربما كانت هذه النقطة هي الأساس الذي انطلق منه شعراء هذا الملف ومنه إلى كل شعراء جيل ما بعد التغيير أو ما يسمى بجيل الألفية الثالثة.
ببساطة، هذه النصوص تحمل المشهد من دون ميول مؤدلجة كما في الماضي، ليس لأن الشاعر خارج اللعبة، بل لأن النص يحرك القارئ ليفهم الحقيقة التي غيبها الشعر العربي طيلة عقود طويلة من القرن العشرين، ولم نحصد منها سوى أن المجتمع بقي أعمى لحد الآن. الشاعر العراقي يجد نفسه مسؤولا عن انهيار محيطه لان ثقافتنا شعرية بالأساس (هذا هو الافتراض الشائع لمنتوج الثقافة العربية) وهو ما يلقي على كاهل الشاعر اليوم ثقل تأريخ مرّ، فماذا يفعل في هذه اللحظة؟
أعتقد أن الجواب هو ما يقوله الشاعر لا ما يقوله الإعلام والفضائيات، لأننا لأول مرة بتنا نثق بكلمة الشاعر. وهذه هي قوة الشعر.
بمثل تلك الخفّةِ والبراعة
تَعبرُ طلقةٌ رأسَ القتيل،
وتتركُ الريحَ تتحدثُ مع دويّها.
يعبرُ الرقمُ صفْر جميع يديه،
ويتركنا مع تصفيقٍ حار بوجهِ الكارثة.
يعبرُ النهرُ،
ويتركُ الغرقى لمشاغلهم.
يعبرُ عابرُ السّبيل،
ويتركُ الأصداء تسحق لمعانَها.
نعبرُ على ظهر ساعةٍ جدارية،
ماضغينَ دفترَ الصّيحة.
نعبرُ الشوارع،
ونتركُ لإطراقةٍ أنْ تدهَسَنا بعلوّها.
تعبرنا الـ «لا»، والـ «نعم»،
ونسأل: ماذا نفعل بهذه المجاذيف؟
نعبرُ العبور، حكايةً للضحك،
ونتركُ الجنون، يشعُّ فوقَ أفواهنا…
ميثم الحربي
عن الحجر الذي تعثرنا به
في الشهور الأولى
كنت أحاول إخباركِ بأهمية الإجهاض
كنّا نشاهد الفيديوهات عن ذلك
وكانت الكثير من الطرق السليمة أمامنا
لكنكِ لم تصغي أبداً
تحدثتِ عن الحلال والحرام
وحدثتكِ عن الثمار في الأشجار المقطوعة
الثمار التي لا يمكن أن تكون خشباً حتى
ما معنى أن نحسد الذين يموتون في حوادث السير؟
والذين يحترقون في الغاز
والذين يأكلهم السرطان
والغرقى
نحسد الذين ينتحرون
نحسدهم جداً
ما معنى ذلك؟
تدخلين اليوم في الشهر التاسع
ستضعين فوق تلال الجثث
جثة صغيرة
لا يمكنها أن تكون خشبة حتى.
كاظم خنجر
الموت كتمثال
في الثالثة والعشرين من عمرك
تصلين مع عائلتك الحزينة
وتعتقدين أنك فتاة تذهب للمطارات ولا تسافر
تجلسين في الطائرة محاطة بجنود سود
ينامون ويحلمون بعراقيين اضطروا لقتلهم
خلال 16 ساعة، خسرت بلدك للمرة الثانية
بلد لا يمكن لأحد أن يحبها.
الجامعة تدفع لك راتبا أقل من الحد الأدنى
لتعلمي أبناءهم عن نساء يتزوجن بشكل تقليدي
وعن رجال لم يكتشفوا مثليتهم
تذهبين للفصل كأنك في مقابلة للحصول على فيزا
هناك حياة تركتها وتعلمين أنها ستموت مثل تمثال
وهنالك حياة قي المنتصف لا تخرج من مربع skype
وهذه بيوت تصلح للفئران، للصناديق، ولنا.
تعلمين:
أن قلبك ينبض وحيدا
أنك لا تغضبين طويلا لأنك مشغولة بعمل الكثير
أن كل الأشياء تتغير إذا انتظرنا بلا نهاية
أن لا وعود يمكن إنقاذها بعد عبور المحيط.
منى كريم
حيلة الشاعر
في الجادة الضيقة والمظلمة، الفاصلة بين الجنة والنار، نزل الشاعر بثوب الشيطان إلى الجادة، نزل ولم تمس قدماه الأرض، أطلق صيحة ليجمع من حوله المعذبين، وكان صوته خافتا، أرخى حبال قلقه فتمايلت استقامته، كاد أن يسقط ثم حملته خدعته، قرأ عليهم غوايته فخروا بين كلماته، بسط يده على الهواء وأشار بإصبعه: ذلك فردوس الفراديس، أرض الذهب والشراب السلسبيل، صورة الإله فناناً على فناره المضاء به، وعطر الروح النقية كقميصي الأبيض. بسط يده الأخرى وأشار بإصبعه نحو الاتجاه المعاكس: تلك فوهة النار السوداء، وجحيم الأبد، يخطو عليها العذاب بأقدام ممسوخة، ويشرب من حممها الوحش ويتجشأ ليل نهار.
خطا فوق الهواء على الخط الفاصل، وكانت الجوقة تتبعه، تردد وراءه: نحن أبناء الفاصلة، الحيارى بلا غايات، العائمون كالهواء. همس الشاعر في قلبه: «أنا الشيطان» فوخزه قلبه، تأرجح في مشيته وكان فوقه البرق يتفجر، فتتصدع الظلمة في الجادة وترتجف الجدران، رفع الشاعر نفسه ورأى الشيطان بعينيه، وكان باردا بينما تطفو فوق كفه اليسرى كرة من نار، قال الشيطان: إلى الأحضان يا بني، أيها الصورة المحبَطة، يا لحن الغواية في آخر الفيلم، بلا حيلة ولدت لتكتب اسمك بألف طريقة وطريقة، وكل اسم كتبته أثار الدموع كالعزاء، لا اسم لنا ولا منطقة وسطى، نحن أبناء الجهات الأربع، نمضي إلى آخر الفردوس والجحيم، نقطف فاكهة الزقوم والتفاح، وننام ليلنا بينما يحبو الشعراء مثلك، هائمين في مناطقهم الوسطى، تعال لأمنحك شفقة الضوء الملعون، أنا ابن الضوء القديم وسيد الظلام، خذ من أولي وآخري شيئا وارحل، وأكمل أغانيك بعيدا عن الخطر.
علي رياض
بيتزا بلحمٍ أميركي
لن أنتظر عزرائيل أكثر من ذلك
تمتلك سيارةً
وتدخّن
وتشرب الويسكي
وتدخل نادياً ليلياً للمثليين
ألا يدينك كل هذا؟!
تباً لكم أيها الحمقى من البيض والسود
لستُ حقيراً لهذا الحد
فقط سأجعلكم حطباً لجسدي
وهو يطير أو يخسف في الأرض
فقط سأجعلكم فضائي المفتوح
عندما أضغط هذا الزر
وأنا أشارككم أفراحكم بالانتخابات أو يوم الطماطم
أو حتى حفلاتكم الخلاعية
حسناً ….. يكفي هذا الشرح
فلم آكلْ البيتزا منذ زمنٍ طويل.
محمد كريم
عند الذبح
عند الذبح، نفتح أطراف أعيننا على اتساعها الكبير
حتى نتابع آخر الضحايا، نغلقها على التراب بعد ذلك
نسحب الرؤوس والرقاب بضحكاتنا،
ضحكاتنا الثقيلة، التي تنقط الدم وتسقط على حافات الأرصفة وكتل الكونكريت
ولا تجد اهتماما.
زعيم عاشور
غرفة 6م²
ثلاثة في اثنين يساوي ستة
أو ستة إلّا قليلاً، لو حذفنا مساحة الجدران المشتركة مع قصائد أخرى.
ثلاثة في اثنين يساوي عائلة بائسة
ثلاثة أولاد وبنت في بطن الأم
والأب في بطن السّوق ابتلعته الباعة واحداً تلو الآخر.
ثلاثة في اثنين يساوي غرفة صغيرة
فيها ستة أفراد
وقصيدة
القصيدة في يد الولد الأوسط الشّاعر
أحياناً يضع الغرفة في القصيدة
أحياناً يضع القصيدة في الغرفة.
علي الحمزة
سيرة ذاتية
أنا ابنةُ تِلكَ الجمجمةِ
التي عثروا عليها على الحدودِ
وأمٌّ لطفلةٍ يجعلونها تبيعُ جسدَها
في مخيّماتِ النازحين
أنا ليلٌ شجيٌ في عزاءِ بيتٍ جنوبيّ
وشتيمةٌ يوزعُها مجنونٌ نحيفٌ
على ضجرِ إيقاعِ المساجدِ
أنا دمعةُ متسولٍ تجفُ على وجنتيْهِ
معطوبةً، كبقايا حربٍ أهليةٍ
ضائعةً كغيومِ اللهِ
متجلّدةً كمنفضةِ سجائِركَ
متكوّرةً كشجرةِ لبلابِ حديقتِنا
متروكةً كـالخمرِ
وحيدةً كالناقوسِ، في كنيسةِ أمَّ الأحزانِ
ملعونةً كأخطاءِ المراهقةِ …
مصطفّةً كالعودِ في علبةِ الكبريتِ
أنا ملاذٌ للحزنِ القديمِ
ذلك الذي يدورُ في رأسِ أبي
ويظهرُ على خصلات شعرهِ الرماديّ
ذلك الذي يتربعُ على آلةِ خياطةِ أمي
أنا صدى سعالِ امرأةٍ مرميةٍ في الردهاتِ
أو فلترُ سيجارةِ زوجِها العاطلِ من التفكير
أنا خللٌ يربِكُ رتابةَ هذا البيتِ
أنا طائرٌ مصابٌ بروماتيزم
وأنتَ شِبهُ جزيرةٍ محاطةٌ بالغَرق
وهذا العالمُ
أشبه بمرحاضٍ عامٍ.
مريم العطار
أحرر نساء منهكات في مكان ما
ما تركت حائطا ينعم بالفراغ
وليت للجدران أثقالا كبيرة
على سطوح المنازل
التي انتقلنا إليها
رسمت فتيات كثيرات
وأحدس أنني كنت
حين أنتهي من رسمهن
أحرر نساءً منهكات
في مكان ما من أعباء شتى
وأطلقهن غزلانا في حقول طباشيري
ما تركت عتمة
تنعم بالسكون
كنت كلما خسرت ضوءا
لذت في انعكاس الظل
على الجدران أرى يدي
تصير أرانب
عصافيرَ
فراشات ..
أمدها على امتداد العتمة
وأطلقها كأغنية
للغابات
ما تركت للرسائل منفذا للنسيان
كنت كلما فقدت شيئا
مددت يدي في رأسي
وأخرجت رسائل معنية بأموات
عاودت محبته بعد أن مضوا
أصنع طائرات منها
وأحلِّق
أحلّق بعيدا.
رشا القاسم
ذاكرة 1990
أتخلص من عوقي
وأجرب المسير
على أول معبر لدجلة
أرى صور جثثكم التي
ركبت الموج
وأنا أحاول أن أسحق ما تبقى منها
بدلاتكم المرقطة بالدم
مراسيمكم الجمهورية
وحتى «بساطيلكم»
معتوهين
كم نصحتكم أن تسمعوا أغنية
«الليلة أموت الليلة آخر ليلة»
كي لا يغتالكم النهار
إنها الليلة الأخيرة
يا سرب غرد خارج السرب
اقرأوا ما كُتب
فدجلة مكتبتكم
اقرأوا لي تاريخنا
اقرأوا لي تاريخنا
المبلل بدمائكم
علّي أن أجد تفسيراً
لنحيبنا الأزلي.
علي أصلان
لا يتريّث النهر
لا يتريّثُ النهر
يتحطّمُ على صخرةٍ ضاحكةٍ
وأنا أتعذّبُ من النقاء!
المحبّاتُ شحيحةٌ ..
والكلمات تنبتُ كالطحالبِ على
الأرضيات المُفطّرة في القلاعِ النسيّة.
لو قيل ماذا تعمل؟
أقولُ: أحرسُ الذكرى الغالية من الذئب.
لو قيل لمن تغنّي؟
أقولُ: الدنيا رائعةٌ وممالُكُ اسمكِ
أبْلاها المطر.
لو قيل لي صفْ الشهور
أقولُ: قبّلتُ الجميلةَ تحت شُجيرةِ الغُبَيراء
وذهبتُ بمفردي إلى البرِّ
أبكي من العجز.
لو قيل مَنْ حبيبتكَ؟
سأهتفُ: كنّةُ الهجرةِ، بنتُ موارِدِ القطا.
إبراهيم الماس
في المخيم
اليوم شبت النيران بخيمتين
صرخ الأهالي، بكى الأطفال هاربين بمؤخرات عارية من الحمامات
غير أن قناني الإطفاء نسيت دموعها
لم يخمد الحريق،
هل عرفت الآن لماذا يسيل الماء من آذاننا كلما سمعنا صراخا؟
أتت سيارة الشرطة، سألنا أين سيارة الإسعاف، بل أين سيارة الإطفاء؟
قال الضابط لا فرق، صراخ السيارات الثلاث واحد،
وإنتاج الدموع مهمتكم أيها النازحون!
لم تكن هناك خسائر بشرية كما ذكر مدير المخيم لقناة محلية
ماذا عن الطفل الذي ولد قبل البارحة واحترق في مهده،
صحيح أنه صرخ لمرة واحدة أو مرتين ولكن لم يكن قد أنتج دموعا بعد
لم تكن عيناه قد تفتحتا،
لم يسمع (دلول) وأي مما شابه من تنهيدات أمه،
لم يحمل من الألم ما يكفي لنقول عنه نازح،
صرخ بي الصحافي
كيف لنا أن نكتب في شريط الأخبار بقلب كاذب «مات إنسان جراء حريق شب بخيمتين»؟
أين الخسائر البشرية في ذلك إذا مات نازح؟
زيدان خلف
الورقة رقم (28) من أوراق ميليشيا مسلحة:
الوحيد من بينهم كنت أنحني كثيرا
واضعا رأسي بين ساقيّ
لأنظر إليهم من الأسفل
أحدهم يرتفع
الآخر يتقوس
والبقية يحملون سيقانهم
بينما البنادق تتخبط بالأرض
طائر غريب الشكل
يخرج من بيت امرأة وحيدة
يقف على ظهري
في فمه بقايا من لحم طفل
لا تكفي لغلق ثقب من الثقوب
التي تتكاثر على ذراعي
بعد الاستراحة من يوم طويل
أجرينا مكالمات هاتفية
منهم من يطمئن على صحة أمه
ومنهم من أخبروه أنه أصبح أبا
وثمة من يضحك
ثمة من يبكي
بينما أطلب من صديقي الذهاب إلى منزلنا الفارغ
كي يتفقده من الخارج
فأنا لم أعد إليه منذ أن ذبحوا أهلي
في نقطة تفتيش وهمية.
(السفير)