مثقفون يضيفون الخوف والعولمة إلى الثالوث المحرم المحرّمات الخمسة

الجسرة الثقافية الالكترونية-الاتحاد-
اش المثقف العربي في الماضي، ويعيش في الراهن، تحديات كثيرة، بعضها داخلي يتعلق بضرورة الاشتغال على إبداعه الخاص وتطويره باستمرار، وبعضها خارجي يمس علاقته بالمجتمع، دوره في الفعل والتأثير والتخلص من الهامشية الملتصقة به، قدرته على إنجاز خطاب لا يبتعد عن الجدية والعمق الفكري ويصل في الوقت نفسه إلى الجمهور العام، أي يزاوج بين النخبوي والشعبي على المستويات الفكرية والأسلوبية والمضمونية.. ناهيك عن الرقابة وشجونها، والتابوات وتعددها… فهل تغيرت الحال بعد الحراك المسمى بـ «الربيع العربي»؟
عد الحراك الذي شهدته دول عربية عدة من أجل الحرية والكرامة، ثارت أسئلة ثقافية كثيرة لعل من أبرزها: هل اكتسب المبدع العربي حريته كاملة أم أن هناك خطوطاً حمراء لا تزال قائمة وظلت ميراثاً من مراحل الحكم السابقة؟ هل ظهرت تابوهات جديدة بما طرأ من أحداث ووقائع سياسية مختلفة أثناء وبعد هذا الحراك؟ ما هي؟ كيف ينظر المثقف العربي إلى المرحلة الحالية والمقبلة على مستوى هذه التابوات؟
سؤال طرحه «الاتحاد الثقافي» على أسماء عربية مختلفة باختلاف المواطن والممارسات الإبداعية.. فماذا قالوا؟
منزلقات قاتلة
من تونس، التي افتتحت الحراك العربي، قال الكاتب والأكاديمي التونسي الهادي المرابط: «سيجد المبدع نفسه، مدفوعاً بطيف الديموقراطية المخيم على المنطقة العربية، لإيهام نفسه بوجود الحرية المطلقة.. لكنه سرعان ما سيصطدم بأحجار الماضي والموانع المترسبة من العهود السابقة، ويحصل له يقين مفجع ومفزع، بل مزعج تمام الإزعاج، إن هو أطلق العنان لمواهبه الناقدة للأوضاع البائسة اجتماعياً وتربوياً وسياسياً واقتصادياً، فالسيد الحاكم لن يصبر طويلاً على ما سيسميه تحرشاً به، بل تحطيماً لمسيرته السياسية، وبالتالي سيواجه ما سيعتبره حرباً عليه بحرب له أشد شراسة».
ويرى المرابط أن الممارسات التي تمت مع سامي الفهري، صاحب (قناة) التونسية من حبس وتعريض لسمعته ثم ما لاقاه صاحب (صحيفة) التونسية من توقيف، ثم إيقاف قناة الفراعين المصرية، وما لحق بالعديد من الصحفيين من ملاحقات عدلية ما هو في الحقيقة إلا نتيجة تبرّم الحكام من اغتنام الإعلاميين للفرصة، وجهرهم بحرّية يمجها هؤلاء الحكام الذين قفز بهم حراك الشارع إلى كراسي جديدة لم يتهيؤوا لها بعد، فكرسي ما بعد «الربيع العربي» يختلف جذريا مع سابقه، ويتطلب ثقافة ثورية قوامها الحرية والديموقراطية والكرامة وحقوق الإنسان التي لم يتعود عليها لا الحاكم ولا المحكوم».
ويدعو المرابط المبدع إلى أن يأخذ في اعتباره «ضبابية الرؤى ومحدوديتها لدى الحكام الجدد؛ لأنهم بصراحة لم يصنعوا حقا هذه الأحداث، وبالتالي لا يحملون مشروعاً لها.. لذا ليست كل المناطق السياسية والاجتماعية متاحة للتناول حتى وإن زين لهم الحاكم، مغالطة، طريق الوصول إليها، فليحذر المبدع كثيرا من المنزلقات القاتلة».
مجرد دُمىً
ويؤكد الشاعر التونسي محمد ناصر المولهي أن الحديث عن التحديات التي يواجهها المبدع العربي يحتاج منه «عمراً آخر حتى أصف ولو قليلاً مما يواجهه، بدءاً بالقمع الاجتماعي وحتى تعفٌّن المشهد الثقافي».
ويضيف المولهي: «سأتحدث عن الكاتب مثلاً، فعلاوة على أنه لا يجد الفضاءات المناسبة ليقدم فيها عمله فهو عرضة لتهميش أقصى، يهمشه مجتمعه الذي لا يمثل متلق لخطابه، كما تهمشه دولته التي لا تؤمن أصلاً بما هو ثقافي، وإن كانت تدعم بعض التظاهرات الثقافية فعلى سبيل الديكور، ثم هناك غياب مناخ ثقافي متماسك، وانعدام القيمة والتقدير تقريباً، زد على ذلك التضييق على الحرية وهي الوقود الأساسي لأي مبدع».
ويشير المولهي إلى أن كل هذه الظروف المعقدة «تبعث على اليأس من أي فعل إبداعي كالكتابة، يأس قاتل يخنق الكاتب ويهشم أعماله وآفاقه. ناهيك عن أن المبدع يجد نفسه في هذه المرحلة بالذات أمام اضطراب عنيف يهدد حتى حياته، ما يدفع به نحو التقوقع والريبة، ويجعل منه مجرد دونكيشوتي في مشهد ثقافي متصحّر أصلاً.. مشهد يشوبه عفن الذاتية الضيقة، وأمراض الوصولية، والانتهازية التي لا تمت بشيء للإبداع. إن الكتاب قادة الفكر والتنوير والفن لكنهم في أوطاننا العربية، نظراً لانغلاق الآفاق تماما، مجرد دمى إما في يد النظام أو عقب سيجارة محترقة يدهسها بحذائه».
تابو أشد قسوة
يفرق الشاعر التونسي عبدالوهاب الملوح بين الحرية والتحرر، وهو يرى أن تابو المرحلة الحالية هو «الثقافة والتحرر، فما هو مؤكد أن الحراك الشعبي الذي اندلع في أغلب البلدان العربية كان من أجل التحرر، والتحرر أعمق وأوسع من الحرية، فهو فعل يومي ومستمر ودائم التجدد، وهو ما طالب وضحى من أجله الشباب العربي الذي انتفض ضد القمع وضد القهر والسياسات الفاسدة. وقد آلت هذه التحركات في بدايتها إلى الإطاحة برؤوس الأنظمة واستيلاء المعارضين السياسيين للأنظمة السابقة على الحكم، لكنهم حوّلوا وجهة هذا الحراك وصادروا مطالب الشعوب. لقد استولى الإسلاميون على الحكم، وهم يرون في التحرر عدواً لهم وضد برامجهم التي تؤسس لمنطق جديد في العلاقات بين الناس، وتنبني على رؤية كليّانية بين الراعي والرعية، وتستمد فكرتها عن الحكم من فكرة الواحد الذي لا رأي للآخرين معه، وهو ما أدى إلى بث نوع جديد من الرعب بين أفراد الشعب إلا وهو الرعب من إقامة الحد أو الحبس أو حتى الاغتيال باعتبار أن التحرر مساو للكفر والإلحاد، فالثقافة باعتبارها السبيل الوحيد للتحرر أصبحت تابو الجميع، المستولين على الحكم والناس العاديين، ولا مبالغة في القول إنه تابو أشد وأقسى مما كان عليه في عهد الأنظمة السابقة. فلئن قمعت الأنظمة السابقة بعض الحريات فإنها لم تصل إلى درجة القضاء على هوية الفرد وما يمكن أن يفكر فيه أو يعتقده، وهو ما يؤكد دقة المرحلة التي تمر بها الشعوب العربية اليوم فإما أن تثور من أجل تحررها واستقلاليتها عن كل أيديولوجية أو فإنها ستعود إلى ما قبل عصور الجاهلية وتنقرض نهائياً».
لا يزال الرقيب مستمراً
يجزم الكاتب المصري سامح كريم أن الرقيب الذي عشش داخل المبدع العربي «لا يزال قابعاً لم يغادر مكانه، وهذا يعود لعدم تحقق التغيير المنشود من وراء حراك «الربيع العربي» الذي لم يستطع أن يبدد كل الخيوط العنكبوتية التي نسجتها الأنظمة السابقة. فالأنظمة الجديدة – للأسف – تسير على منوال الأنظمة القديمة ضاربة بكل أهداف الشعوب العربية عرض الحائط ليظل المبدع معزولاً عن جمهوره».
ويضيف كريم: «المبدع العربي عبر عشرات السنين حرم من الحرية في التعبير عن قضايا وطنه ومجتمعه، وعانى من التهميش والعزل في ركن قصي حتى لا يصل إلى جمهوره المنشود، وطاردته السلطة لتهدده حيناً بقضبان سجونها وحينا آخر تضعه تحت طائلة الفاقة والعوز لتنهك قواه وتدمّر روحه. هذه السلطة ما زالت قائمة وإن تبدلت الوجوه، ومساحات الحرية ما زالت كما هي ضئيلة ومحدودة، وشيوخ الحسبة الذين تحركهم هذه السلطة كما هم».
ويؤكد كريم أن المبدعين «يواجهون التحديات نفسها التي طالما واجهوها في ظل الأنظمة السابقة، فضلاً عن التحديات الاقتصادية التي تعوق غالبية الكتاب عن نشر أعمالهم».
الدين.. تابو المرحلة
يذهب الناقد والأكاديمي المصري عادل ضرغام عميقاً في معنى التابو وطبيعته، يقول: «من المعروف أن التابو تشكل بالتدريج، وعلى مرّ الأزمنة، من خلال أصناف ثلاثة، وهي: الجنس والدين والسياسة، وهذه التابوهات الثلاثة تكونت بالتدريج بفعل الأشكال الإبداعية المتوالدة تدريجياً».
ويتابع ضرغام: «السياق العام يشير إلى أن مقاربة التابو الديني أصبحت نسقاً فاعلاً في اللحظة الآنية، خاصة بعد أن أصبح الهجوم على الإسلام عمل من لا عمل له، ومنطلقا لكل خال من الموهبة، وكأن الهجوم على الإسلام – نظراً لردود الأفعال المتباينة – يضع صاحبه موضع شهرة واهتمام غير عاديين، والدليل على ذلك الفيلم الهولندي، الذي أساء للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، فالفيلم بمقياس الجودة الفنية، كما أشار إلى ذلك الهولنديون أنفسهم ضعيف ورديء ولا قيمة له، ومن ثم فهي خطوة من صاحبه، لكي يكون في دائرة الاهتمام». وعليه، يرى ضرغام أن «التابو الديني في المرحلة الآنية والمقبلة سيكون موضوعاً في بؤرة التركيز، خاصة في ظل صراع الحضارات والإثنيات العرقية، التي أخذت حيزاً فاعلاً في تشكيل ورؤية الآخر، ولكن هذا التوجه لا يلغي استمرارية وجود الأصناف الأخرى، وإن كان صليلها سيقل بالتدريج».
خطوط حمراء.. لكن!
يرى الفنان التشكيلي الليبي سالم التميمي أن السُّلَط «قد تتهاون رغم حرصها على إبعاد المبدع وتحذيره من الاقتراب من مثلث المحرمات (الدين والجنس والسياسة) في مسألة الجنس والدين، ولكنها لا تتهاون مطلقاً في موضوع السياسة».
ويعتقد التميمي أن ليبيا بعد «الربيع العربي» وبعد 17 فبراير أصبحت حرة، وليس هناك قيود ورقابة، كما في زمن الطاغية.
ويضيف: «أما الخط الأحمر الذي يتمثل في الذات الإلهية والأديان السماوية والأنبياء، فإني أؤمن إيماناً راسخاً بأن لهم قدسية تجعلهم في حصانة عن أي محاولة للخوض في ذكرهم بطريقة لا تحمل الاحترام. واستخدام الدين كذريعة للظلم ومصادرة حرية الآخرين ممارسة مغلوطة للأديان. وأما الخط الأحمر الثاني وهو الجنس ليس بمفهومه الإنساني إنما بطريقة تناوله، فيجب أن نترفع عن التعرض للجنس بطريقة فجة خالية من الحياء. وأعتقد أن هذه الخطوط الحمراء أمر نسبي يضعها كل مبدع لنفسه ولا يفرضها أحد عليه، وبالتالي يتحمل المبدع مسؤولية اختياره».
ويختم التميمي بالقول: «على المبدع احترام مشاعر جميع الناس، فالمبدع هو الذي يجب أن يضع لنفسه خطوطاً حمراء لا يمس قدسيتها كي لا يضع له الآخرون خطوطاً تعوق حركة إبداعه».
ويؤكد القاص الليبي إبراهيم بشير زائد أن أهم التحديات التي تواجه المثقف العربي هي: «بناء الدولة على أسس ديمقراطيه قوامها الاحترام والحرية والاختلاف والإنصاف، ورسم سياسية ثقافية تتحدث عن ثقافة الشعب والمواطن لا ثقافة الحكومة والنخبة، ثقافة تجعل من الثقافة سلوكا ملموساً لا كلاماً نظرياً يدغدغ أسماع الناس كترف لا غير».
ويتابع: «أما عن التابوهات وهمّ المبدع نفسه، فهو الخوف من الآخر ممثلاً في التشكيلات الخارجة عن القانون.. الخوف هو سمة المثقف، بدليل عدم مواكبة الحدث الجلل في ليبيا إلا ما ندر».
من جهتها، تشير الكاتبة الليبية أم العز الفارسي إلى أن التابو الجديد هو «الحس الأمني، لأن لحيطانه آذانا تسترزق من وراء التأويل، فكل مختلف مع طرحها هو عدو مفترض وجب إقصائه والقضاء عليه».
الشرطي الداخلي
تفضل القاصة والشاعرة السورية سوزان إبراهيم أن تبدأ من تعريف للإبداع الذي ترى أنه «قدرة الشخص على اجتراح ما هو متجاوز للمألوف وقادر على إشادة بناء مختلف للقيم والعادات، وهو في محاولته هذه (يجاهد) للخروج بالمجتمع من ماضٍ مضى إلى مستقبل يصنعه بحاضرٍ متميز».
وهي تعتقد أن «من أهم شروط الإبداع ليقوم بوظيفته: الحرية.. وعلى مختلف الصعد، وترى أن السؤال: ما الذي يواجهه المبدع العربي في ظل غياب الحريات وسيطرة التابوهات؟»، هو «سؤال محرج على بساطته: لنرى ما الذي يتحكم بفكر ولغة الكاتب وهو يكتب الآن مثلاً قصيدة أو قصة أو رواية: أول التحديات التي يواجهها الكاتب هي ذلك الشرطي المتخفي داخله، وشبكة الخطوط الحمراء التي رضعها مع حليب أمه، وتعلمها منذ أول اللعب في الحارة!. ستطْبق على فكر الكاتب شخصيته الداخلية، التي تحاول الاختفاء دوماً فتمنعه من التفكير والكتابة بحرية، ثم وجه العائلة الغاضب ووجوه الناس حوله إن حاول الإشارة إلى ما يفضح ويعرّي، ستنتفض سيوف القبيلة في وجه الخروج على العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، وسيعبس في وجه لغته رجال الحاكم وحاشيته ويذكّرونه بآداب التعامل معه ومعهم. إن خرجتَ عن أي سلطة مستقرة، حتى على قواعد اللغة والصورة والأسلوب، فسوف تكون عرضة للمواجهة والتحدي… الآن زِد على كل ذلك إن كان الكاتب امرأة. قبل أن نناقش من الأقدر على التغيير الكاتب أم المجتمع، السياسة أم الاقتصاد أم الثقافة، لا بد من توجيه السؤال الأول والأهم إلى الدين والأعراف والتقاليد التي تعتبر المسؤول الأكبر عن افتقادنا للحريات بمختلف مستوياتها».
وتوضح سوزان إبراهيم ما ترمي إليه بالقول: «مفهوما الواحدية والأبدية يرفضان مبدأ التعددية والتداول والتناوب؛ لذا إن أردنا بناء مجتمع حر يجب أن على الكاتب (الكاتب الحق الجدير بهذا اللقب بالطبع)، أن يتولى زمام الأمور وليس رجال الدين أو السياسة فهؤلاء مغرمون بالإبقاء على الوضع على ما استقر عليه واعتباره أزلياً أبدياً وأعني تولي الأديب أو المثقف العضوي زمام التربية وتثقيف المجتمع بمزيد من الانفتاح على الآخر وتجاوز الثابت والمستقر».
قلق الهويّة
وتذهب الروائية والكاتبة السورية نجاة عبد الصمد إلى وجهة بعيدة عن الفكرة السائدة حول التابوات، لتبيّن أن ما يقلق بالها حالياً هو الهوية: «بالنسبة لي في الفترة الراهنة لا يقلقني أبداً الثالوث الذي كان سائداً قبل سنواتنا الأربع الأخيرة، الذي تلتبس فيه الكتابة بكل أشكالها حول الدين والجنس والسياسة. التابو بالنسبة لي الآن هو في الحديث عن الهويّة، هو التوازن الحقيقي والصادق والعميق في داخل المبدع حول مفهوم الهوية: كيف يراه، وكيف يعبّر عنه، وكيف يصنع منه دليل انتماء لقارئه. الحديث عن هوية الفرد بصفته كلاًّ مستقلاً لا تستهلك طاقته الانتماءات الضيقة التي تبدأ بعائلته الكبيرة أو عشيرته مثلاً، وتزحف وتتمطّط لتقع في حضن الإسلام السياسيّ… هذه الانتماءات التي تستحوذ عليه، فترعبه وترسم عنه خياراته وقراراته لتسلخه أخيراً عن وطنه الجغرافيّ؟! أو بمعنى آخر: هل ما زال لهذه البقعة الجغرافية الكبيرة التي اسمها وطن ذات التأثير في الشريحة العظمى من قاطنيها والذين كانت من قبل تجمعهم صفة المواطَنة كهويّةٍ جامعة لهم؟! هل سيتلقّون الخطاب الوطنيّ بذات الحماس أو حتى القناعة التي كانوا عليها قبل سنوات (الربيع العربي)؟! هذه في الحقيقة ما يشغلني: أن يعي المثقف هذا التحدي الكبير».
الحقيقة.. تابو
وباختصار شديد تؤكد الإعلامية السعودية نادين البدير أن «الحقيقة هي التابو.. الحرية تابو تحرم مناقشته.. العدالة تابو.. نقد السياسي تابو. نقد الفتوى ورجل الدين تابو بل حرام ويدخل صاحبه الإعلامي جهنم».
أما مواطنتها الإعلامية نادية شيخ فتعتقد أن أهم الأمور التي لا يستطيع الإعلام العربي مناقشتها بحرية هي «السياسات الداخلية لدولنا العربية وشؤون الإصلاح السياسي والاقتصادي. لا أقصد هنا التحدث بوقاحة لأن هذا الأمر لا يجب أن يكون مقبولاً لدى المثقف بشكل عام بل أقصد التطرق للمواضيع وفتحها وطرحها على طاولة النقاش والحوار بشكل راق وحضاري».
وتضيف: أما بالنسبة للانفتاح الذي تشهده مجتمعاتنا ففي اعتقادي المتواضع أنه انفتاح سطحي وغير حقيقي، فالانفتاح الموجود يخص الشكل الخارجي والتبرج والتحرر من هويتنا الإسلامية والعربية، ولكن من الداخل لا يوجد انفتاح في المضمون الثقافي والحضاري بما يتناسب وروح العصر».
المعاناة ملح النجاح
علي كمال (فنان تشكيلي وموسيقي من الكويت)، يرى أن هناك تحديات كثيرة يواجهها المبدع العربي، ويذكر منها أن المبدع العربي لا يجد من يشجعه بل ويجد من يعرقله، وهو يتوه بين الحساد وأولئك الذين يريدون أن يبعدوه عن أنظار الناس ويحبطونه ويؤخرونه لكي ينسحب، ويحاربونه في كل شي وكأنه الشيطان الرجيم، ومنها غربة المبدع، فالمبدع غريب في بلده فيما هو خارجها نجماً من النجوم، ولكن المبدع الحقيقي لا يتراجع، بل يصمم على مواقفه وعلى الاستمرار في إبداعه جاعلاً من الحاقدين وقوداً لإبداعاته وانطلاقة للصعود إلى الأعلى، وهو يعتمد على الله بالدرجة الأولى وعلى قوة تصميمه وصلابة إرادته، ذلك أن الإبداع يحتاج إلى قوه داخلية جبارة، وبعدها يكون نجم النجوم ويجد من كان يقف ضده في الماضي يصفق له ويقف خلفه، ومن كان يطرده ويحاربه هو الذي يتبعه ويتكلم عنه بالكلام الطيب.
وفي رأي الشاعرة الفلسطينية سوسن غطاس أن المبدع العربي «يخوض العديد من المشاكل والعقبات، مما يخلق أمامه أيضا العديد من التحديات من أجل كتابة وصياغة ما يفكر به حقيقة، من دون أن يقع في مطبات منع السلطات له من التعبير عن رأيه وما يشعر به حقيقة، والمبدع الحقيقي هو الشخص الذي لا يبدع بعيداً عن قضاياه الحياتية وقضايا شعبه، ويكون مجسا صادقاً وحقيقياً لما يدور حوله».
وتلفت غطاس إلى مشكلة مؤرقة للمبدع وهي هيمنة بعض الفئات والصحف والهيئات على النشر، وتحيزهم لأشخاص وفئة معينة يشجعونهم وينشرون إبداعاتهم، لتحقيق منفعة أو لمصلحة معينة، بينما لا يجد الكثير من أصحاب الأقلام والفنانين المبدعين مكاناً لهم، ويهمشون رغم أن إبداعهم لا يقل عن إبداعات هؤلاء، بل ربما يتميزون في الكثير من الأحيان، الأمر الذي يضطرهم للتقرب من المهيمنين بهدف ترويج إبداعاتهم، لأن هدف الكاتب في الأخير هو نشر ما يبدع.
وتضيف غطاس مشكلة أخرى تتمثل في «غياب دور النشر التي تشجع المبدع على النشر وتبني عمله، مما يضطره لدفع مبالغ طائلة من أجل نشر كتبه، وإن نشرها لا يوجد ضمان كاف لبيع هذه الكتب وعدم تخزينها في المخازن، فأغلب دور النشر اليوم هدفها تجاري محض».
وتعتقد غطاس أن على المبدع الحقيقي أن «يتصدى لهذه الظواهر وأن يكافح ويناضل من أجل الوصول إلى الأمثل دائما، وأن يتميز دائما ويتفوق على نفسه ويتحداها، لأن الإبداعات تقاس بجماليتها ولكن أيضا بمضمونها وعمقها والتنقيب عن تغيير الواقع المر».
مسؤولية جديدة
الشاعرة اللبنانية صباح زوين ترى أن التحديات التي تنتظر المبدع العربي كثيرة، بعد التغيرات الحادثة في أكثر من بلد عربي، تقول: «كان المبدع قبل «الربيع العربي» يضع كل المسؤولية على نظامه الفج، الاستبدادي، الطاغي، القاتل، القامع… إلخ. كان يضع كل الحق على الديكتاتور المتربع على عرش الاستبداد، الديكتاتور الذي يقرر له حياته ويومه ويبرمج عقله وما شابه. فيغسل يديه من أي إنتاجية نافعة ليتذمر من الوضع الصعب الذي هو فيه من طغيان واستبداد وقلة حرية ورقابة. نتفهم وضع مبدع تلك الحقبة، ولا يمكننا مطالبته بأكثر مما تتيح له ظروفه السياسية القاسية. أقول هذا رغم أن الأعمال الإبداعية تبدأ في أقبية القمع وتخرج إلى العالم ولو من تحت سابع أرض. الظروف السياسية القاسية هي التي تولّد في بعض الأحيان الحافز الأول للابتكار والإبداع في كل المجالات: الأدبية منها والفنية وحتى العلمية. لكن هذا لم يحصل حقيقة، وظللنا نجتر الإبداع الغربي بكل مقوماته وأسسه، في البلدان القابعة تحت رحمة الديكتاتوريات، كما حتى في البلدان التي لم تذق يوماً طعم هذا العذاب كما في لبنان الذي تمتع بأقصى درجات الحرية منذ نشأته حتى اليوم».
وتفصّل تلك التحديات قائلة: «أمام المبدع العربي اليوم تحديات كبيرة، وكثيرة، ومنها قبل كل شيء، تمكّنه من خوض العالم ومواجهته بشفافية وقلة عصبية. بالإضافة إلى هذين الأمرين، قد نحب أن نرى المبدع العربي قابلاً لمواجهة كل ما كان يعتبره «تابوه» في ما قبل بغية هدمه. ننتظر منه حرية في التفكير والحركة، حرية أن يقول ما يريد ضمن أطر النقاش الهادئ والعقلاني، لا ضمن العصبية العمياء والانفعالية الركيكة. وقبل كل شيء أيضاً: أن يقبل بأن يكون هو موضوع انتقادٍ من قبل أي كان. بل أكثر: أن يبدأ بانتقاد ذاته. من دون هذه الجرأة لن يشكل أي فرق المبدع العربي بين اليوم والأمس، بين الحياة التي أمضاها تحت حكم الطاغية والحياة التي يواجهها بكل حرية اليوم. إنه حقاً يواجهها لأن في الحرية مسؤولية بينما في الديكتاتورية اتكالية.
في الحرية صعوبة مواجهة الذات ومواجهة العالم! التحدي اليوم أمام المبدع العربي يكمن في أن يتخطى عمر الطفولة والمراهقة، وأن يدخل عمر النضوج! التحدي يكمن في أن يعرف كيف السبيل إلى الإبداع بكل استقلالية. والتابوهات التي عليه تخطيها ومحاربتها تكمن في أن يخرج من قوقعته النرجسية إلى آفاق أوسع. أعني أن عليه الخروج من عصبيته الذاتية الأصولية ليدخل في نطاق أوسع، حيث ذاتيات أخرى لا تشبهه وحيث اكتشاف عوالم وأفكار لا تشبه عوالمه وأفكاره. التابو الأكبر الذي يجب تخطيه، هو الخوف من الآخر ومن الذات. الخوف منهما في عالم من الحرية المطلقة. لذا عليه تخطي التابو الثالث، وهو الحرية التي لم يعتد عليها بعد. والحرية لا تعني السخف والتفاهة والابتذال في التعامل مع العالم. الحرية تعني النضج، النضج فحسب».
الحرية المفقودة
من جهته، يشير الشاعر والناقد الكردي لقمان محمود إلى أنه سيتحدث حول التحديات والتابوات كشاعر وناقد كردي يكتب باللغتين الكردية والعربية، ويحرر في الوقت ذاته مجلة (سردم العربي) التي تُعنى بالتواصل الثقافي الكردي – العربي، يقول: «أستطيع القول إن المبدع الكردي قد اخترق بعض الشيء، هذه المناطق المحرمة في الجنس والسياسة مع بعض التحفظات على الدين. التابوهات الثلاثة: الجنس والسياسة والدين، ربما في العراق له تحدٍ آخر، ومن نوع آخر، وهنا أشدّ – وبقوة – على أيدي وقلوب نخبة من المبدعين (في العراق وكردستان) ممن دخلوا هذا الصراع وخاضوا السجال بقوة الإيمان بالإبداع».
ويتابع لقمان محمود: «كمبدع كردي يكتب في الصحافة الكردية والعربية، وله تجربة قوية في إصدار مجلة (إشراقات كردية) في العاصمة المصرية.. أقول لم نجابه أيّ تابو حتى على الآراء المختلفة التي كانت تنشر في المجلة.. خلاصة القول إن كردستان العراق بقوة مبدعيها استطاعت أن تواجه السلطات الثلاث، وقد نجح المبدع الكردي في محافظة السليمانية (عاصمة الثقافة الكردية) في تحرير نفسه وفكره وجسده وخصوصيته من هذه التابوهات، عكس ما نراه في المحافظات الأخرى من كردستان العراق كمحافظة أربيل ومحافظة دهوك ومحافظة كركوك.. خاصة على صعيدي الدين والجنس.. من كل ذلك نجد أن الدين والسياسة والجنس (هذه التابوهات) ما زالت ضمن تحديات المبدع وإن اختلفت هذه التحديات من كاتب إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ومن محافظة إلى أخرى، ومن وجع إلى آخر. بمعنى أن حكاية المبدع في أوطاننا ستبقى دائماً هي الحرية المفقودة بشكل من الأشكال».
ذرائع وتشوّهات
وتلفت الشاعرة العراقية وفاء عبدالرزاق إلى أن المرحلة «تشتت وتشوّشت، والتابو ألبسوه على هواهم وجعلوا ذكره محرماً على من يكتشف غشهم وزورهم».
وتتساءل: «حين تنزل إلى الشارع الآن ماذا تجد؟ لقد اختفت المباهج والاحتفالات بالإنسان المبدع المنتج وأدخلوا على العراق طباعاً لا نعرفها سابقاً ولم نعتد عليها، وعادات متخلفة صنعوا منها التابو الجديد وأعطوه قدسية تخلفهم لينشروا الرعب والظلام في مهد الحضارات. العابثون كثيرون والمغرضون أكثر، والأخطر من الاثنين من لا يتمنى للعراق الخير ويحسده على أبنائه القادرين وعلى أرضه المعطاء. هم يبعدون الخطر الأميركي عن أراضيهم فيصدّرون لنا أفكار التخلف المقصود والمصبوغ بصبغة سياسية، ظاهره ديني متخلف وباطنه سياسي بربري».
أما الإعلامية والناشطة الحقوقية العراقية ميسون الموسوي، فترى أن ما يحدث هو تفسخ إعلامي لا انفتاحاً، باستثناءات متواضعة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة كفضائيات الجزيرة وأبوظبي ودبي والعربية والـ«بي بي سي» العربية حديثة العهد، وتشير إلى أن تعدد الفضاء العربي جاء لخدمة الحكام ورجال الدين والاقتصاد والسماسرة ولم يثبت حتى هذه اللحظة أنه جاء لخدمة المجتمعات العربية. أنا أعتقد أن إعلامنا العربي حقق انفتاحاً ملحوظاً ونجاحاً منقطع النظير بعدد التابوهات (المحرمات) وتكميم الأفواه الحرة وتغييب الأصوات الشريفة ومصادرة الآراء المستقلة. تسألني عن تابو المرحلة؛ عليك في ظل كل هذا الاستبداد والاضطهاد وانتهاكات حرية التعبير وكرامة الإنسان أن تتخيل أي تابو يحكم المرحلة المقبلة إذا ما علمت أن حريات التعبير والإعلام تشهد تراجعاً غير مسبوق في أكثر وأنبل بلدان الرأي الحر والإعلام النزيه والديمقراطية الحقة… لذا أجدني كلي قلق من أن توصف المرحلة الراهنة والمقبلة بمرحلة التابو تحت ذريعة ضرورات الأمن القومي ومكافحة الإرهاب والمسميات الفضفاضة القابلة للتفسير والتأويل».
أقلّ وطأة
القاص والكاتب الأردني هشام البستاني يعتقد أن سطوة التابوات تغيرت قليلاً بسبب الانفتاح الإعلامي، يقول: «في السابق كانت مسألة التابوهات والممنوعات مؤرقة حقاً للمبدع ومقيّدة للعمل الإبداعي، لكن مع دخول متغيّرين اثنين هما: فضاء الاتصال الإلكتروني من جهة، والانتفاضات العربية من جهة ثانية، صارت هذه المسألة أقل وطأة. الثالوث التقليدي الذي كثر الحديث عنه سابقاً (الدين والجنس والسياسة) تخلى إلى حدّ ما عن اثنين من أركانه: الجنس الذي لم يعد «ممنوعاً» في سياقات كثيرة، بل إن العديد من الكتاب (والكاتبات تحديداً) صاروا يستعملون الجنس بابتذال، وكوسيلة لجذب الانتباه وزيادة المبيعات بعيداً عن الجدارة الأدبية والإبداعية، والسياسة التي انكسرت محرّماتها (بدرجات متفاوتة) في زمن المطالبات بإسقاط الأنظمة ودخول المواطن في الأقطار العربية حيّز الفعل السياسي المباشر. لا يزال حيز السياسة يحظى باهتمام الرّقابة في العديد من الأقطار مثل الأردن، حيث يمنع حتى الآن تناول الملك والعائلة المالكة بالنقد حتى في سياق إبداعي، وثمة حادثة متعلقة بهذا الأمر تخصّ كتابي القصصي الثاني «الفوضى الرتيبة للوجود» (بيروت: دار الفارابي، 2010) حيث حاولت الرقابة منعه بحجة أن الرقيب فهم أن إحدى القصص فيه (واسمها «فيصلي ووحدات») تتجرأ على هذا الجانب. لكن الكتاب أجيز بعد شدّ وجذب ولم يُمنع. لكن يظل الركن الأساسي في التابوهات الثلاثة والمتعلق بالتابو الديني قائماً حتى الآن، وهو ممنوعٌ يسهر على ملاحقة خارقيه لا الحكومات فقط، بل المجتمع نفسه الذي مازال لا يتقبل نقد الأديان أو تناولها في قوالب الأعمال الإبداعية. لكني رغم ذلك، أصر على أن المبدع الذي يستجيب لضغوط الرقابة، سواء كانت هذه الرّقابة سلطويّة أم اجتماعيّة أم دينيّة أم ذاتيّة، هو خائن لفعل الكتابة والإبداع، من حيث إن الكتابة والإبداع هما انعكاس للتحرر والحرية، ومن حيث إن الكاتب هو المعبّر الأول عن هذه القيم لا المتنازل الأول عنها».
الدين الإجباري
وتذهب الكاتبة الأردنية سناء شعلان إلى أن «العولمة هي الدّين الإجباري الرّاهن لكلّ العالم إبّان هذا القرن الموبوء المأزوم، والخروج عن ركب العولمة هو تابو هذا العصر الذي يستدعي – للأسف – الفتك دون رحمة بالنّاس والبلاد والحضارات تحت مظلة الادعاءات الأميركية المصنوعة المزعومة مثل محاربة الإرهاب، انتهاك حقوق الإنسان، وغيرها من الحجج الكاذبة المصنوعة والمفروضة على العالم شاء أم أبى.
وتابو العولمة ليس محدّداً معرفيّاً وثقافيّاً يريد أن يقدّم الحضارة والرّقي لكلّ البشريّة كما تزعم أميركا، بل هو نموذج أميركي بالدّرجة الأولى يريد أن يفرض نمطاً فكريّاً وسياسياً واقتصادياً على كلّ العالم بما يخدم مصالح أميركا بالدّرجة الأولى والأخيرة، وهو يستدعي بالضرورة إرهاب العالم، وقمع الحريات، وسحق الشّعوب، ودفن القوميات والأديان والموروثات الثقافية والحضاريّة.
وكلّ من يحاول أن يهدّد مصالح هذه العولمة، أيّ مصالح أميركا، يكون قد تجاوز تابو خطيراً، وعليه أن يتوقّع حرباً شعواء عليه، حتى وإنْ كان حكومة أو دولة، فضلاً عن أنّه شخص فرد أمام سلطة عملاقة قاسية».
«تابوات» من كل شكل ولون وفي كل زمان
ومكان أي تابو تختار يا صديقي؟!
الشاعر والكاتب الليبي الكيلاني عون رغم أن السؤال يضع تمارين فخاخاً، ويفترض انسياباً مشحوناً بطوابير انفعالات بعضها مسموحٌ به وبعضها الآخر ممنوع حتى بالنسبة لذاكرة معزولة لم تعد قادرة على هضم كائنات الإثارة، ورغم أن طرح مفردة (التابو) سيعني إدراجها تفعيلاً لمتخيلات إنتاجية لمسألة التراكمات الجدلية ضمن أوعية دلالية متعارفَة، رغم صعوبة (صدق المصطلح) نفسه بين تكوّنات المضمر بقسوته التشريحية للقمة العيش وأنيابه الاستهلالية مع كل ومضة أشجار يتمّ إقصاؤها من المشهد دفعةً واحدة، ليتسنى لفخامة الإسمنت أن يستريح باغترابه الثقافي عمّا يستدعيه من نزاهة المقصد، ورغم أننا لم نتّفق حول مكان/ خارطة الانفتاح المقصود، ورغم أنني مشمول بقرار الوظيفة التأويلية من أركان اليوميّ والمهمّش والحدسي ككلِّ العاطلين عن الكراهية والدسيسة، رغم غموض السؤال/ لأنه غامض، فإنني سأفترض إجابتي مفتوحة الدلالات كذلك، وبعيدة عن أي ّتواطؤ جهوي، حتى لا أتحوّل إلى بطل وهمي أو ما شابه ذلك، وسأُعلِّق المعنى على زجاج النوافذ المشرعة للهواء الملوّث بالذين سرقوا ضمن حمّى سرقاتهم حتى ثمن الهواء القادم، الذي علينا كعرب أن ندفعه مقابل التنفّس. اسمح لي أن أُجيب كأنني أُبصق على شيء أكرهه، أو كأنني أشعر بالتقيؤ/ بالاستفزاز، ليس طمعاً في محاكمة عادلة من قبل لجان تفتيش أوروبية.. ولكن نشداناً للتنفيس عمّا يشعر به أطفال شارعنا، الذي هو جزء من الشارع العربي الكبير جداً لدرجة أننا بحاجة إلى مكبرات صور لنراه أحياناً.
وما دام الحلم بمنأى عن وزارات العقاب الدولي، فإنني أود أوّلاً: أن أستميح أبطال التأويل أن يستخدموا معاجين الأسنان لأفكارهم، ووجودهم مع الاعتذار لمقدمة ابن خلدون، ولا أدري لماذا يتوجّب عليّ أن أتذكّر ذلك الكتاب المهمل عربياً.
وللاقتراب من مأزق السؤال نفسه أفترض مسبقاً أنني بحاجة إلى رسم صورة مبكّرة لما يُسمَّى بالانفتاح، والذي يأتي من (فَتَحَ) النقيض لـ (غَلَقَ) حيث إن دسيسة الانفتاح تعترف بوجود انغلاق سابق. وإذا استقرّت المفردة بين عامة الإعلاميين وجهابذة ترسيم المعاني والعناوين، فإنها لا تستقرّ بذاكرتي الشخصية لأسباب عديدة أهمّها: العراء السافر الذي تمارسه القنوات الفضائية العربية تماشياً والانفتاح ذاته، فإذا كان المقصود بالانفتاح أن نتوقّف كعرب عن النظر باتجاه نظمنا الثقافية الخصوصية بأخلاقياتها الإسلامية وسيرتها النبيلة فإنني لا أرى معنى للانفتاح، بل بالعكس قد أتّهم هذا الغول الشيطاني: الانفتاح، وأستشعر مكيدة ضدَّ تاريخنا وإرثنا الحضاري المسلم والمؤمن بالله الواحد الأحد الحيّ القيّوم الصمد الذي لم يولد ولم يلد، وليس المؤمن بمجاراة الغرب حتى في نوع اللباس وبالمقابل عدم مجاراته أي الغرب في كسب العلوم وتنمية الذوق العام.
الانفتاح شيء جميل عندما يكون متوجِّهاً نحو تفاصيل الذاكرة المليئة بالمحبة والعدالة والصدق، ويمكن رسم وظيفة (تقابلية) مع الغرب، أمّا احتقار الذات ليرضى الغربُ فهذه مسألة أخرى بحاجة إلى أن تعالجها.
(تابو المرحلة)، ولا أعرف أي مرحلة/ وأين؟ يعنيها السؤال، وهذا سبب دخولي المطلق في طبيعة الإجابة.
من وجهة نظري، نحن العرب ننتج فقط التابوات الجميلة والقبيحة، تاريخنا تاريخ تابوات ولا أقصد هنا ما يتعلّق بالمقدّس العلويّ، بل أقصد الانتهاكات الوضعية المهترئة، أحياناً يكون التابو عَلم الكيان الصهيوني المبتذل والسفيه وهنا تشترط سعادة التابو احترام التوقيعات القديمة، وأحياناً يكون التابو القانون الذي يركض ضد لقمة العيش وهنا علينا كعرب أن نعمل ليل نهار ليس للترفيه بل لتأمين الرغيف البسيط، وحتى تكون حواسنا قادرة على متابعة أولاد الذوات وهم يركبون أفخم العربات الفارهة/ أن نتابع سيادتهم بإعجاب، وحتى نفعل هذا الإعجاب علينا أن نكدّ ونشقى عسى أحدهم يمرّ بجوارنا ويشعرنا بقيمة أعيننا: لأجل ذلك وُجدت العين.
ووُجدت الأذن لنستمع إلى أولاد (الذوات أيضاً) وهم يبتسمون للفقراء (يبتسمون للفقيرات الجميلات/ الممكنات): لهذا رُزقنا بآلة السمع.
والتابوات كثيرة جداً منها المادي والمعنوي، والرمزي والأسطوري، واليومي والشهري والسنوي والفصلي والليلي والنهاري، والكبير والصغير، والطيب والشرير، والفقيه والجاهل، والبليد والماهر، والمخنّث والرجولي، والعالي والواطي و… و… و… فأيّ تابو تختار يا صديقي؟