مثقفو «الحمراء» والأسماء الاستهلاكية

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
*منير الخطيب
هدأ شارع الحمراء الممتدّ عبر تفرعاته إلى الوردية وكليمنصو شمالاً، والجامعة الأميركية وشارع بلس غرباً، والى فردان جنوباً، فالروشة شرقاً. صارت الحمراء اختصاراً لرأس بيروت. أسماء الشوارع تذوب تدريجاً من الذاكرة، من يعرف اليوم شارع العرداتي، الممتد من المنارة إلى الجاندراك بالتوازي بين شارعي بلس والمقدسي، حيث مطعم مروش الذي أقفل أبوابه قبل أيام. أسماء جديدة ومعالم مستجدة اكتسحت المشهد، بات «البغ سايل» يختصر وسط الحمرا، والكوستا كافيه التي كانت يوما الهورس شو، على كتفه الأيمن أما على الأيسر فكاريبو. والكبابجي أول الشارع بعد مصرف لبنان، ومقهى «ليناز» آخره بدلا من «أبو طالب». أسماء مقاهي ومطاعم طاغية، لم يعد احد يقول نزلة الجامعة الأميركية، صار بديلها «كافيه يونس»، و«دانيز» بدلا من البنك لبريطاني. وبعد المقاهي تأتي أسماء محلات الملابس، هي بدورها صارت معلما. حتى الأسماء الطويلة والمركبة صارت مقبولة، فـ«كوفي بينز» و«تي ليف» يُختصر بــ «تبع» القهوة والشاي.
كثرة المقاهي وتوسع الجامعات وانتشار الخاصة منها والمعاهد والمؤسسات الإعلامية، تفرض طابعاً ثقافياً على الشارع. المثقف الجديد لم يعد يتأبط كتاباً ولا جريدة. أيام محمود صاحب بسطة الصحف على زاوية الكبوشية باتت صعبة بصعوبة بيع جريدة. العلامة الجديدة لتمايز المثقف، لم تعد اللحية الكثّة أو الملابس الفوضوية أو البيريه الباريسية، كلّها موجودة، لكنها لا تستقيم من دون لابتوب أو هاتف ذكي، أو «بافلت» أي الجهاز المهجن من الهاتف الذكي والكومبيوتر اللوحي. المثقف «الجديد» يدلّ إلى قاعة وزارة السياحة الزجاجية بفلافل «أبو الزيز»، وهي الزاوية التي كانت يوماً جريدة زاوية «النهار». أما نزلة «السفير» فصارت بوجه «الدانكن».
شارع الحمراء ليس معلماً ثقافياً بمثقفيه ومسرح المدينة والمترو ومكتبة أنطوان فحسب، بل بتنوع رواده وجنسياتهم المختلفة. فيه تختلط اللهجات اللبنانية والعربية. وبات الشارع مؤشراً للأزمات. عندما تشتدّ الأزمة السورية، يرتفع عدد رواده السوريين الذين يشتكون بدورهم من كثرة عدد السوريين في الشارع، بعدما كانوا يتذمرون من عدد اللبنانيين المتزايد. وقبل السوريين كان الشارع مقصداً للعراقيين، تنتشر في زواياه مطاعمهم، وهنا الكلام لا عن سياح بل عن مقيمين. ومع بداية الربيع المصري، احتلت عائلات مصرية كاملة مقاهيه، وصدحت أصوات أبنائها لتصل إلى ما بعد بعد الحمرا. وفي هذه الأيام تغلب اللهجة الكردية، على حانات الشارع.
ولكل قوم سوى لهجاتهم طعامهم وموسيقاهم، كلها تجمعت في الحمراء في خليط ثقافي لطيف لا طغيان فيه أو تصنع. صار اللبناني يعرف عن أقاصي سوريا أكثر، وكذلك عن العراق وعن ليبيا ومصر.
ومع طول زمن الأزمات في الدول الشقيقة، باتت خبرة مثقف الحمرا باللهجات أعمق، وصار أكثر دراية بأقليات هذه البلدان وعادات أهلها، وصار معجباً بالمقاتلات الأكراد، ومتبحرا بتاريخ الحوثيين العسكري، ويميز بين العراقي السني والعراقي الشيعي، والإسلامي المصري المؤيد للنظام والإسلامي الاخواني، ومع تدهور الأوضاع زاد إلى مخزونه ثقافة الايزيديين والفرق بين اليسار الكردي واليمين.
ولكنه لا يعلم ان الشارع الذي يصل الحـمراء بشارع إميل إدة اسمه القاهرة، لا طلعة الكوستا، وان زاوية الشيخة، حيث يقيم العراقيون طوال أيام الأسبوع، ويهجرونها الأحد لصالح الجالية الفيليبينية هي مقابل شارع بعلبك حيـث «دار الندوة»، وليست مقابل بربر. وامتداد شارع القاهرة هو شارع عبد المنعم رياض رئيس أركان القوات العربية الموحدة أيام جمال عبد الناصر، والشارع يتقاطع مع مصطفى كمال أبو الأتراك (أتاتورك) لا طلعة البريستول.
مثقف الحمراء الجديد، اعتاد الأسماء الاستهلاكية، يحفظها بيسر وبسرعة وينساها بأسرع مما حفظها. ينمي معارفه عبر الهاتف الذكي، ورأس حربته محرك «غوغل»، أما قوته الضاربة فعدد المتابعين على تويتر وفايس بوك. واللايك خير من مقالة، والتغريدة بألف كلمة. وهو بشحطة إصبع يعرف أحوال الطقس للأيام العشرة المقبلة، مع انه ليس بمزارع، ولا تعنيه كمية المتساقطات أو درجات الحرارة. وإذا اندلعت مواجهات عنصرية في مدينة أميركية، فهو بكبسة زر يحلل الأسباب الجذرية لأزمة الملونين. أما في القضايا العربية، فيقسمها إلى أبواب يبدأ بانعكاسات وسائط التواصل الاجتماعي إلى الرسم على الجدران، وكيف تنبأ قبل الجميع بثورة محمد بو عزيزي التونسية من خلال رؤيته لصورة رسم في مجلة شهرية لم يسمع بها احد معطوفة على أغنية راب هابطة.
هاتف ذكي، زائدا طعاما دون الوسط، مع قهوة مشكوك بصحة البن فيها، تنتج مثقفا عصريا معنيا بكل شيء ولا يفعل شيئا. وهذا من علامات الساعة. ولكن يبقى شارع الحمراء قلب بيروت وروحها ومساحتها المختلطة. ويبقى مثقفها الجديد صورتها الجميلة، فهو يحاول على الأقل اللحاق بالعصر، ولو ما زال في بطن الماضي.