مثقف قديم وآخر كالجديد كما ترى شيرين أبو النجا

الجسرة الثقافية الالكتروينة-الحياة-
ألقت شيرين أبو النجا بحجر في بحيرة راكدة، وبوسع الدوائر التي يصنعها حجر على سطح الماء أن تشير إلى الحالة فحسب، ولن يصلح الماء الفاسد إلا إذا انفتحت البحيرة على النهر أو استقبلت من الأحجار ما يكفي لردمها وإزاحة الماء العطن ليتبخر تحت الشمس.
في كتابها «المثقف الانتقالي… من الاستبداد إلى التمرد» (روافد – القاهرة)، تحاول الكاتبة الإمساك بصور وأدوار المثقف المصري في المرحلة الانتقالية، أي مرحلة ما بعد 25 كانون الثاني (يناير) 2011، ولكن ذلك لم يكن ممكناً من دون المرور بقصة المثقف والسلطة قبل الفترة الانتقالية، والتوقف أمام ما توقفت عنده كتب كثيرة وهو تعريفات المثقف (هل هو منتج المعرفة أم مجرد القادر على استهلاكها؟ هل هو المثقف العضوي الملتزم بقضايا جماعة بشرية، أم التكنوقراط الذي يبيع خبراته لأي كان؟ هل هو المثقف الذي يضع نفسه في الهامش بإرادته أم يلتحق بالنظام السياسي ليغيّر من داخله أو ليتغير هو نفسه بعد أن ينال منافع السلطة؟). ويبدو أنّ تعريف المثقف وإعادة تعريفه أمر بلا جدوى، ولا بد من الانتقال بالسؤال من مستوى «من؟» إلى «متى؟» و «كيف؟».
كانت لحامل الحكمة دائماً مكانة خاصة منذ فجر البشرية، ولكن متى تحوّل الحكيم الفرد إلى جماعة؟ وكيف صارت ألف لام التعريف تشير إلى فئة موحدة من الناس، بل ربما صارت «طبقة» قفزاً على تنوعات قدرات أفرادها العلمية والنفسية، ثم كيف اقتصرت كلمة «مثقف» على منتج الكتابة في فروع معرفية محددة؟ كيف نعتبر وزير الثقافة حامل الدكتوراه في الآداب مثقفاً انضم إلى الحكومة وليس من جوهرها، بعكس زميله وزير الاقتصاد، أو الداخلية، أو حتى التعليم، وكلهم قد يكونون من حملة الدكتوراه؟!
ثمة جمع وطرح غير منطقيين تماماً في زمان ما، والأمر لا يخلو من مراوغة، لأنّ كل «مثقف» يدّعي أنه تحت الخيمة التي يتصورها الأبهى، لا التي يقف تحتها بالفعل، كأن يعمل في صفوف الحكومة ويدعي الاستقلال، أو على الأقل يدّعي أنه لم يذهب إلى هناك إلا لتثقيف الحكومة وأنسنتها، أو أن يقف على الأعراف، يضع قدماً مع السلطة وأخرى مع المستقلين.
ولن تتطهر البحيرة إلا إذا اتصلت بالنهر، أي إذا عاد حامل الحكمة فرداً، تحسب عليه مواقفه وليس جماعة أو طبقة. وهذا ما بدأ في الحراك الثوري، الذي برز فيه دور «الناشط السياسي» على دور المثقف التقليدي، والناشط مثقف كذلك، لكنه مثقف من دون امتيازات طبقة المثقفين. وعلى رغم أن الكاتبة رسمت الحدود بوضوح تام، إلا أنها لم تجد مهرباً من استخدام تعبيرات مثل: «الجماعة الثقافية» وهو اصطلاح آخر يحتاج إلى تمحيص.
من فضائل هذا الكتاب أنه يثير شهية الاختلاف، ابتداء من العنوان الذي تلتبس فيه صفة الانتقالية بين المثقف والمرحلة، مثلما يلتبس الاستبداد بين أن يكون المثقف ممارساً الاستبداد أو راضخاً له.
الكتاب جاء في وقته، ويجب أن يثير نقاشاً أوسع. تقول الكاتبة في المقدمة إن الرغبة في إنجاز كتاب عن المثقفين واتتها قبل 25 يناير، ولم تكن قادرة على بلورة الزاوية التي تدخل منها لأن الموضوع مقتول بحثاً، وإن كان كل ما كُتب قد اقتصر على التناول العام لأدوار المثقفين في شكل نظري مجرد، لأن الإشارة إلى مثقف بعينه تتطلب استعداداً للقتال مع شخص لا يتورع عن قتل الآخر بكل أشكال الاغتيال المعنوي. لكنّ ثورة 25 يناير فعلت فعلها، تقول الكاتبة: «أدركت ساعتها أننا لن نعود كما خرجنا أياً كانت النتائج. ولم نعد كما خرجنا».
صار تأليف الكتاب ممكناً، بل ضرورياً، وعلى رغم أنّنا نرى عبر صفحاته أنواعاً من المثقفين، أكثر مما نلمح من أسماء، إلا أن أفعالهم تدل عليهم، نظراً إلى حداثة التاريخ، فثمة إشارة إلى «الذين انضموا إلى اللجنة الاستشارية للمجلس العسكري» أو «الناقد الذي تولى الوزارة قبل تنحي مبارك بأيام». وعند الحديث عن النقد الأدبي تشير إلى الوضع الإشكالي لمجموعة من النقّاد القدامى، هم الذين يمنحون شرعية الوجود للكتاب الجديد، لكنّهم في الوقت نفسه محسوبون على القديم، بعضهم جاهر بالانتماء إليه وبعضهم كمن انتظر ما تسفر عنه الأحداث. والطريف أن الترسيمة القديمة للثقافة التي ينتقدها الكتاب عادت وتراصت صفوفها من جديد بعد طباعته مباشرة!
تعرض الكاتبة وضع الثقافة المصرية قبل الربيع، بين مثقف موظف في مؤسسة الدولة أو متعاون معها ومستفيد منها يعيد إنتاج خطاب الدولة الأبوي في الثقافة، وبين مثقف مناهض، تجلت مناهضته في الدعوة إلى مؤتمرات ونشاطات ثقافية مستقلة.
ترى الكاتبة في الربيع العربي صراعاً بين سلطة الأب وبين الابن برؤاه الجديدة المنفتحة الرافضة آليات القمع. هذا التحليل لطبيعة ما حدث تتطابق فيه أبو النجا مع رؤى محللين كثر، لكنّ تأمل تحولات شكل السلطة في بلاد الربيع العربي يمنعنا من قبول هذا التحليل كمسلّمة، فالنظام الأبوي في أبسط تصور له هو (الرعاية في مقابل الطاعة)، وقد كانت مصر أبوية في عهد عبدالناصر وتونس أبوية في عهد بورقيبة وسورية كذلك حتى الولاية قبل الأخيرة للأسد الأب.
كانت الدولة تطعم وتطبب وتُعلّم وتوفر الوظائف، لكنها استقالت تدريجاً من مسؤولياتها لمصلحة «كارتيلات» عائلية تلطف سرقاتها ببعض التبرعات. وقبل سنوات من هبة الربيع كان الأب قد شبع موتاً، وربما يكون الأدق أن نقول إن خروج الشباب لم يكن ضد الأب، بل ضد عصابات مالية تحكم من خلف جثامين الآباء الميتين.
وإذا حاولنا اختبار صيغة النظام السياسي على السلطة الثقافية، لن نجد اختلافاً، فالسلطة الأبوية في الثقافة تعني رعاية الجميع. والجميع هنا، تعني متلقي خدمات الوزارة ومنتجي هذه الخدمات. وهذا ما دعا إلى إنشاء مراكز ثقافية في كل مدن مصر، تتنبع إدارة كبيرة «الثقافة الجماهيرية»، لكنّ الوزارة التي أخرجت متلقي الخدمة من حسابها أهملت المواقع الثقافية في الأقاليم، واقتصر دور الهيئة على طبع الكتب وإقامة مؤتمر سنوي يحمل عنوان «مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم» الذي يمثل حصة إرضاء لمن يسكنون خارج القاهرة من الأدباء، مثلما صدرت سلاسل تمثل حصتهم في النشر.
صارت الوزارة في خدمة منتج الثقافة، وعلى رغم أن لديها هيئة مختصة في النشر «هيئة الكتاب»، صارت كل الهيئات تتنافس في طبع الكتب بغض النظر عن الجودة ومن دون تنسيق يضمن التوازن بين الأنواع، تلبية لاحتياجات المتلقي. ذلك لأن الوزارة الأبوية تركت أبناءها المتلقين واهتمت بأبنائها المنتجين فقط، ولكن ليس بكل أبنائها المنتجين، بل تناغمت مع بنية العصابة التي تسم النظام السياسي. أما الذين تنشر الوزارة كتبهم بمكافآت أضخم، فهم الذين يفوزون بالجوائز، وأسماء الفائزين تحدد مسبقاً لسنوات مقبلة في تصريحات علنية لترضية من لم يصبه الدور، والمؤتمرات تسارع إلى تدارك سهو منظميها وضم على عجل اسم مثقف مشاغب هدد بالقتال.
وإذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى، فإن المؤتمرات المستقلة كانت تأتي غالباً رداً على الاستبعاد، وليس إيماناً من أعضائها بمقترح إدوارد سعيد «اختيار الهامش». لم تفت الكاتبة ملاحظة أن مؤتمرات المستقلين كانت تتخذ التوقيت ذاته الذي حدده الرسميون لمؤتمرهم، أو العودة إلى المكان ذاته «المجلس الأعلى للثقافة» بعد 25 يناير، وكأن الثقافة المستبعدة استعادت المؤسسة وطهرتها، لكنّ البنية كانت متجذرة إلى حد تبخر محاولات التغيير في الهواء، بينما استطاع المثقف في محاولات محدودة أن يكسر عزلته ويلتحم بالشارع في تجارب مثل «الفن ميدان».
لم تتعالَ المؤلفة على الحاجات الدنيوية للمثقف، أو تنساق وراء قطبية المثقف التابع والمثقف الرسولي، فبحثت في ما يسعى إليه أي مثقف أو لنقل أي إنسان، وهو الرغبة في الاحترام والعيش، أو ما تسميه «حيازة رأسي المال الرمزي والاقتصادي». وترى أن الأول هو الذي بإمكانه أن يحقق الآخر وليس العكس، لذلك حاول المثقفون بتنوعاتهم المختلفة الحفاظ على رأسمالهم الرمزي وتوظيفه، فكانت المسافة المحسوبة بين الميدان والقناة الفضائية، بين المؤسسة الرسمية والشارع وبين كل هذا والمراكز الثقافية الأجنبية والجوائز والترجمة.
في الفواصل بين هذه المعسكرات ضلّ الكثيرون طريقهم وارتبكوا، لهذا تختتم الكاتبة كتابها بتساؤل «عالم جديد؟». هل نحن بصدد عالم مختلف، أم نراوح في المكان ذاته؟ هل تكيّف المثقف «الذي نعرفه» مع الجديد، أم يعتبر نفسه في حرب مع تيارات أيديولوجية تود أن تمحوه من الوجود؟
ويمكن الإجابة باطمئنان: إنها الحرب!
لسنا بصدد واقع ثقافي جديد، بل كالجديد، حيث الإعلاء من شأن الشباب في التصريحات الصحافية من دون الإيمان بدورهم أو تمكينهم من هذا الدور. تغيرت لغة الخطاب ولم تتغير الممارسات، تغيرت الاستراتيجيات ولم تتوقف الحرب.