«مجزرة» كارلوس شاهين.. عرض مجنون كسب التحدي

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
*أروى عيناتي
«توجد آلهة للمجازر» قالها ألان لفيرونيك، وللمجازر فنون، ليس فقط في إطاحة الرؤوس إنّما بكسر النفوس أيضاً. وهذا ما حصل على خشبة «مسرح مونو». من افتعل المجزرة لا يهم، إنّما المتورطون أربعة، فادي أبو سمرا، برناديت حديب، كارول الحاج ورودريغ سليمان، وخامسهم المخرج كارلوس شاهين، الذي اختار نصّاً من أصعب النصوص، للكاتبة ياسمينا ريزا God Of carnage (ترجمة رندة الاسمر). عرض تمثيلي بامتياز تعرّض لكلّ انواع مزايا وعيوب النفس البشرية، من فائق الاحترام إلى فائق السفالة، بين أربع شخصيات في عملية تشريحية لكيفيّة تركيبة عودة النفس البشرية الى البهيمية، كرحلة نحو الجحيم.
كارلوس شاهين، الذي عرفناه ممثلا ومخرجاً لأفلام قصيرة، يطالعنا للمرّة الأولى بعمل مسرحي في لبنان، هو المقيم في باريس. المهمّة كانت صعبة، لا سيّما في لبننة هذا النص الصادم والصاخب، الأمر الذي نجحت فيه رندة الاسمر. أمّا المهمة الأصعب، فكانت في تشكيل كوماندوس لتوريطه داخل مجزرة دموية مماثلة، وإيجاد توليفة ممثلين منسجمين مع ادوارهم اولاً، وفيما بينهم ثانياً، الى اقصى حدود.
هو عمل للممثل ولا شيء آخر عداه. نجح كارلوس في هذه المهمة أيضاً. كلّ ما رأيناه بدا ثانويّاً، يخدم الاربعة الذين جسدوا ليس مجرّد شخصيات عادية في اجتماع صلحة لأهل، بل اشخاصاً جلسوا على الكنبة أمام اعيننا، وتجرّدوا شيئاً فشيئاً من كل المنطق والواجب والمفروض، وتحولوا الى القشرة الدفينة المبذورة فينا جميعاً، لكشف حقائق يصعب التأقلم معها، عملت عليها في الأصل ياسمينا ريزا ببراعة كبيرة. إظهار حقيقة المجازر الموجودة فينا لعبة ماهرة شاهدناها تدور من خلال ثنائيات: محامي وزوجته الرقيقة، المختصة بالآثارـ فادي وكارول، وبائع الخرضوات بالجملة وزوجته الباحثة ومؤلفة الكتب عن أفريقا ونصيرة القضايا الانسانية رودريغ وبرنا… كلها اختصاصات اختصرت لعبة عالمية واسعة، المحامي المدافع عن أدوية فاسدة، ضد المناضلة وصاحبة الشعارات الانسانية، التاجر السوقي الذي لا يملك الا السخرية ومعرَّض للتهميش من قبل زوجته، والزوجة، عالمة الآثار، الكابتة لغضبها من خلال نوبات الغثيان، قوى المال، المجتمع المدني، التجارة والتاريخ يتصارعون على البقاء.
لا شكّ في أنّ المخرج عاشق لتفاصيل هذه الشخصيات، غاص فيها الى اقصى حدود، تاركاً الزمام لأربعة ممثلين قديرين أحببناهم برغم «سفالتهم». وما زاد الصراع حلاوة هو النص الذي نقل بشكل امين النص الاصلي. فاستطاع ان يحوّل الكلمات ككرات بينغ بونغ نارية ضربها اللاعبون بوجه بعضهم. التفاصيل الصغيرة التي بنيت عليها كل شخصية بدت فاضحة بالمعنى الإيجابي، أجهزة إنذار مبكرة، من الحركة الجسمانية لتعبيرات الوجه، للـTic العصبي لكل شخصية منهم، وبخبطة واحدة هدّت وأظهرت تحولات هذه النماذج، وهذا ما ردّنا إلى روح المسرح الجميلة.
عرف الإيقاع بعض الهبوط انّما المقياس الداخلي في الممثلين كان يسارع لإعادة الشحن والاندفاع من جديد.. لم نحب السينوغرافيا الجانبية، الحمام والمطبخ، حيث كان الممثلون لدى خروجهم من صالة الجلوس، يجلسون على كراسي، ليعودوا ويدخلوا، وهذا كسر الصورة قليلا، وبدا مزعجاً ومربكاً أحياناً، لكن ما دار في غرفة الجلوس كان خطيراً. التطور من قناع اللطف واللباقة الى الهجوم اولا بين الثنائيات، ثم بين الزوج وزوجته، كشف عورات العالم عامة، وصولا إلى تفاصيل الحياة الزوجية، وهي ضربة معلم. رأينا فادي المتألق الذي يطربك عندما تراه على المسرح، علاقته الصاخبة بزوجة المضيف، برناديت، بدت رائعة في طلعاتها ونزلاتها، «فاسد» محتال خالي من العاطفة. برناديت متجددة في دورها، المرأة المناصرة للحقوق انما الكابتة لتصدعات عديدة بين حسها الأمومي المثالي وبين حياتها غير المثالية والمنهارة. رأينا قدرتها في دور خارج كل التجارب التي قدمتها حتى الآن. اما كارول فهي مبدعة، بحركات بسيطة وتعابير سهلة حافظت على هذا الخط الرفيع بين المرأة اللبقة والمجنونة التي انتهت حالتها بنوبة هستيريا جميلة جداً وغير متوقعة. رودريغ استطاع ان يكون ذلك المسالم المصلح بين الجميع ليعود ويفجر كل «وساخة» ما يعتمل بداخله، ببراعة كبيرة وأداء تلقائي شدّنا إليه، وجعلنا نرى فيه ممثلا يمتلك العديد من المقومات.
عرض «مجزرة» مجنون تحدى كل العاملين فيه أنفسهم وكسبوا التحدي.