محاكمة الإيطالي إرّي دي لوكا.. إنها مجرد كلمة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*اسكندر حبش

المصدر: السفير

 

ابتدأت في نهاية الأسبوع المنصرم، محاكمة الكاتب الإيطالي إري دي لوكا، إذ مَثُل أمام محكمة تورينو بتهمة «التشجيع على التخريب» (كما للدفاع عن «حقه بالتعبير» مثلما يصف هو نفسه هذه المحاكمة)، وهي تهمة قد تدخله السجن لمدة خمسة أعوام، وقد عيّن القاضي المكلّف بالقضية يوم 16 آذار المقبل، موعد الجلسة الأولى التي سيتم فيها الاستماع إلى أوائل الشهود.

بدأت القضية العام 2013 حين قال في مقابلة صحافية مع بعض وسائل الإعلام الإيطالية إنه يجب «تخريب خط سكة الحديد» المنوي إنشاؤه ما بين مدينتي «تورينو» (إيطاليا) و»ليون» (فرنسا)، إذ إن هذا الخط الجديد ستبلغ تكلفته مبلغا باهظا «أكثر من 30 مليار يورو من أجل حفر نفق يبلغ طوله 57 كلم»، كما أنه مضرّ بالبيئة «لأن عملية الحفر ستكون سبباً في تجفيف الينابيع» (أي ما يقارب 250 مليون متر مكعب بالسنة). وممّا قاله دي لوكا يومها إنه على اقتناع بأن هذا الخط مشروع عديم الفائدة أولا لأن الخط القديم لا يستغل منه إلا 17 في المئة من قدراته.. «لذلك ليس الأمر قرارا سياسيا، بل قرار اتخذته المصارف وكل من يرغب في تحقيق مكاسب من دون التفكير بحياة واد كامل».. وأضاف دي لوكا: «إن السياسة موافقة على هذا المشروع، واليوم يحتل الجيش الورش وصار لزاما على المواطنين أن يبرزوا بطاقات هوياتهم إن رغبوا في الذهاب للعمل بحقولهم». من هنا دعا «إلى تخريب هذا المشروع».

السلطات اعتبرت «الدعوة» أمراً يحاكم عليه القانون، بينما يصر الكاتب أن الكلمة التي استعملها (Saboter) هي «كلمة نبيلة ولا تدعو إلى العنف» إذ «استعملها الماهتما غاندي بنفسه». يقول دي لوكا في مقابلة مع مجلة «تيليراما» إن الكلمة تفيد أيضا معنى «الرغبة في المنع»، و «عرقلة» و «مقاطعة» و «لا يمكن اعتبارها إنها دعوة فقط إلى التخريب المادي. تماما مثلما يقاطع النواب قانونا ما».

المدعي العام أندريا بيكوني قال في جلسة الاستماع الأولى ـــ (التي شهدت أكثر من عشرين شخصا رفعوا يافطات عليها عبارة «كلا»، مثلما رفع آخرون يافطات عليها عبارة «أنا إري»، مثلما وصفتها صحيفة «ليبيراسيون») ـــ قال أن ليس هناك إي إبهام في الكلمة التي استعملها الكاتب إذ أنها «تشير فعلا إلى التخريب»، من هنا لا يجد أن هذه المحكمة تعقد من أجل «قضية حرية الرأي والتعبير».

هل علينا، ربما، أن نقترب من هذه القضية بطريقة أخرى، فيما لو استعدنا ما قاله في المحكمة، محامي الشركة الفرنسية ـــ الإيطالية المكلفة بالمشروع، إذ إنه ـــ وكما جاء في «ليبيراسيون» ـــ «أن المحامي تحدث كثيرا عن شخصية دي لوكا، وبخاصة عند النقطة التي تشير إلى ماضيه النضالي بكونه يساريا متطرفا سابقا، كما أن كونه كاتبا مشهورا قد يثير تأثيرا نفسيا كبيراً» عند الناس.

هل بهذا المعنى تتحول القضية إلى محاكمة دي لوكا بسبب ماضيه السياسي؟ فكما نعرف، انتمى الكاتب إلى اليسار المتطرف في سبعينيات القرن الماضي، وهو اليسار الذي حوكم بتهمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق ألدو مورو، كما كان المسؤول عن عمليات الخطف والتفجيرات التي عرفتها إيطاليا، أي المسؤول عن تلك الفترة التي عرفت باسم «سنوات الرصاص»، حيث لا يزال أبرز منظريها في السجن من مثل أنطونيو نيغري وأدريانو سوفري وغيرهما. يومها وبعد الاعتقالات التي حدثت غادر دي لوكا إيطاليا «ليختار» المنفى في فرنسا، بيد أنه عاد بعد سنوات، بعد تبرئته، إذ لم تجد المحاكمات التي أقيمت، أنه شارك في أي أعمال عنف.

ما يدفع إلى التفكير قليلا بذلك ما قاله محامي الكاتب (كما جاء في «ليبيراسيون» أيضا) الذي اعتبر أن الشهود الذين سيمثلون في الجلسة المقبلة، لا نجد بينهم أي شخص ممّن يمكن لهم أن يكونوا من «المخربين»، من هنا اعترض على «خطر انحراف هذه المحكمة، لتتخطى قضية دي لوكا». أمام ذلك، رفض القاضي قسماً من الشهود ما دفع الكاتب إلى التصريح لوكالة الصحافة الفرنسية بعد انتهاء الجلسة: «ستكون المحاكمة أقل ثقلا ممّا توقعت، وإن كان هذا لا ينفي أنها بقيت محاكمة لحرية التعبير. إنه إجراء سياسي».

أين تقف هذه القضية بالضبط؟ أسئلة كثيرة تثيرها، من هنا يتوجب علينا الانتظار قليلا لتتكشف حقيقتها أكثر فأكثر. في أي حال، ومهما كان عليه الأمر، بدأت أمس العديد من الأصوات المنددة ترتفع في اوروبا وبخاصة من قبل المثقفين، إذ ظهرت على الانترنت «عريضة» تدافع عن الكاتب، ولغاية كتابة هذه الأسطر كان عدد المتضامنين يقترب من ثلاثة آلاف كاتب وفنان ومثقف.

ربما تجدر إشارة أخيرة، «مفارقة» بعض الشيء: إذ صدرت مؤخرا ثلاث ترجمات بالعربية لثلاثة كتب لدي لوكا هي «اليوم ما قبل السعادة» (ترجمة معاوية عبد المجيد، «دار أثر» في السعودية) و «جبل الرب» و «ثلاثة جياد» (ترجمة نزار أغري، منشورات الجمل).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى