محمد الأشعري: ‘علبة الأسماء’ ليست حنينا إلى أندلس ضائع

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مخلص الصغير

وهي تحكي علاقة ثريا بركاش بالإنكليزي ريتشارد، تحتفي رواية “علبة الأسماء” لمحمد الأشعري بالعاصمة المغربية الرباط، أو بـ”أندلسية الرباط”، تحديدا، ما بين أسوار المدينة القديمة، مع الجدة شيمرات وحفيدها عماد وعشيقها الأول بيدرو “معلّم الفن الغرناطي”، ثم أسطورة الكنز الذي يوجد ولا يوجد في بيت القصبة، وهو بيت في ملكية شيمرات أيضا، يطل على البحر، في حي الأوداية.

في الفصل الثاني، تدخل بنا الرواية سجن لعلو، في الرباط، دائما، قبل أن تلتحق بنا ثريا بركاش، بسبب تورطها في قضية مقتل ابنها مصطفى. يموت الطفل، بينما تكف العائلات الرباطية عن تسمية مولودة جديدة باسم “شيمرات”. وفي النهاية، تموت شيمرات، فتنقضي السلالة، ويختفي بيت القصبة، ويرحل بيدرو يقينا. يموت السجناء تباعا بوباء الكوليرا، الذي داهم السجن، وينجو من نجا منه فقط، وذلك حتى تستمر الحياة، كيما نعيشها ونرويها.

 

 

الانتصار للحياة

 

هل انتهى الأمر بمحمد الأشعري إلى درجة فقدان الحلم والأمل في روايته الجديدة “علبة الأسماء”، الصادرة حديثا عن المركز الثقافي العربي؟ ألم تعد لك “عينان بسعة الحلم”، كما هو عنوان أحد دواوينه الشعرية السابقة؟ يجيب الأشعري، في هذا اللقاء المطول مع “العرب” بأنه من الواضح أن الرواية تُغَلِّب هذا الطابع التراجيدي للفقدان، غير أنها تنبني، أساسا، على تحليل مسارات الشخصيات في علاقتها بالأمكنة. وهي تقدم خريطة للملذات المحتملة للحياة حتى في أقسى الظروف، وفي الأماكن الأكثر شراسة، من قبيل السجن. وفي نظر الأشعري، ربما يجب أن تُقرأ الرواية بهذه الروح. فهي رواية الاحتفاء بالحياة، تمجيد الفن والذوق والوجدان. ومن المؤكد أن الشخصيات التي تختفي تباعا تفعل ذلك كما في الحياة. ذلك أن الحياة تبتلع كل يوم مسارات وأشخاصا. ومن هنا، يخلص الأشعري إلى أن “الرواية نوع من النشيد الذي يمجد الإبداع والفن في مواجهة المحاولات المُقَيِّدة، التي يحبل بها المجتمع والسلطة، التي تحاول أن تضيق على مساحات هذه التعبيرات الأساسية عن الحياة”. وفي الأخير، فإن الرواية عنده “انتصار للحياة، أو هكذا أفكر، على الأقل، في معنى العمل الروائي” يؤكد الروائي.

 

إن عودتي إلى أمكنة وأحداث، جرت وقائعها بين ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، هي عودة من أجل إعادة تشييد عالم انبنى على أمرين متناقضين. فمن جهة، إبراز الوجه الزخرفي في المدينة والمعتقد والفن، ومن جهة ثانية، استحضار المحاولات المتعددة للوقوف في وجه هذا المنحى الاستعراضي الذي يتسم بالكثير من السطحية. وفي هذا نوع من التأمل في صعوبة بناء الحداثة داخل مجتمع تقليدي سلطوي.

ورغم الاستعداد التلقائي والطبيعي لفضاءاتنا وشبابنا من أجل خوض غمار تجربة حديثة في الحياة والفن، فإن العوائق سرعان ما تقوّض مشاريع التحديث، وترجع دورة التاريخ إلى الوراء. وهذه في نظري خاصية من خاصيات المجتمعات العربية الإسلامية في تاريخنا الحديث. وعن رهان التحديث في الرواية، أي تحديث المجتمع، والتركيز على مهمة “استنبات الحداثة في الصخر”، كما جاء على لسان أحد أبطال الرواية، يرى الأشعري أنها خلفية أساسية للرواية بكل تأكيد. غير أنه لا وجود لأطروحة تريد أن تقنع برسالة محددة في موضوع التحديث. فالمهم بالنسبة إليه هو كيفية تركيب عوالم روائية بشخصيات وأمكنة.. وجعل هذه العوالم تنضج بشكل جيد، دون تعسف، أو لَيِّ عنق الحكاية، لتصبح طيعة في يد المشروع النظري الفكري.

 

فهل كان رهان محمد الأشعري، وهو يكتب هذه الرواية، هو رهان بطلة الرواية ثريا بركاش، التي اشتغلت في التلفزيون، وكانت تحلم بكتابة “سيناريو يبكي جميع المغاربة ويضحكهم”؟ يشدد الأشعري على أن ما كان يراود ثريا من مشاريع تخييلية حول الوقائع التي تلتقي بها في الحياة يتضمن إشارة إلى أننا لا نعيش الحياة بما هي مادة للاستهلاك فقط، بل من أجل تحويلها إلى خيال. نعيشها لنرويها، كما قال ماركيز، قبل أن يودّعنا؟ يرد الأشعري: “نعم، نحوّلها إلى خيال، لنعيشها من جديد، بطريقة خاصة”. وهذه مسألة جوهرية في الحياة الإنسانية، ذلك لأن “الإنسان ليس القادر على تحويل الحياة إلى خيال، بل القادر على أن لا يفصل بين الحياة والتمثلات المحيطة بها والمُعَبَّرِ عنها. وقد لجأت إلى تقنية التفكير في السيناريو أو الفيلم، على لسان ثريا، بما هي تقنية في الكتابة أيضا. فأنا أكتب الاحتمالات الموجودة للحكاية في الواقع والخيال، من خلال استيهامات ثريا” يوضح الكاتب.

 

 

 

الضحك والبكاء

 

وعن خطاب السخرية وسخرية الخطاب الروائي في “علبة الأسماء”، يقر الكاتب بأن الرواية تتسم بنوع من السخرية المبطنة حينا، والظاهرة أحيانا. لكن السخرية عنده إنما هي تقنية في الكتابة وليست موقفا من الحياة. “بالنسبة إليّ، فإنني أرى بأن الأمور ينبغي أن تكون محط شك دائم، وباستمرار. فأنا لا أعتبر الأشياء التي نعيشها جامدة بطريقة قدرية، بل يمكن لنا أن نشحنها بنوع من اللعب والهزل، وفي ذلك سبيل إلى الإفلات من ديكتاتورية القدر المكتوب والنهائي وغير القابل للمراجعة”.

 

نعم، السخرية أساسية، يؤكد الأشعري، حتى أمام الأشياء القاسية، مثل السجن والتسلط والقهر. وتقديم مثل هذه الأشياء بطريقة ساخرة يجعلها أكثر قابلية للتحمل. وهكذا، فإن المظاهرات التي حدثت سنة 1984، وما نتج عنها من سقوط أرواح ومدافن جماعية، وفظاعات أخرى، تُعالَج من خلال مواقف ساخرة، مثل سقوط مالك في بطولة لم يكن يتطلع إليها، أو من قبيل مقتل رجل لم يكن على علم بما حدث في المدينة. ومن ذلك اضطرار أمّ إلى دفن صندوق، وإقامة جنازة في مدينتها، من غير جثمان. وفي السجن، هنالك الكثير من المصائر التراجيدية، جرى تقديمها تقديما ساخرا. ذلك لأن الهدف من الرواية ليس التركيز على الجانب المفزع في كل سقوط إنساني. فهذا أمر سهل، وندركه كل يوم في المصائب والحوادث والشدائد التي نصادفها. لكن إدراك عمق الفجيعة وتقديمها من خلال مواقف ساخرة هو استراتيجية روائية، وتقنية في الكاتبة، كما تتجلى في الفصل الثاني من الرواية. فالسخرية في هذا الفصل هي أسلوب لترويض مكان شرس بالغ القسوة. والكتابة عن السجن إما أن تكون كتابة شكوى ومراث، وبكائية على الزمن المسروق من حياة الإنسان، أو أن تكون كتابة بالمفارق والهزلي، وتبلغ السخرية مداها، والمفارقة منتهاها، أمام ذلك اللامتوقع في حياة أناس تعرضوا لموقف، أو مصير تراجيدي، يمكن أن يحدث لأي شخص آخر، وليست هنالك قاعدة تثبت أن هؤلاء هم المسؤولون المقصودون بالضرورة. حتى البطل السياسي في السجن إنما هو بطل بالصفة، ذهب لزيارة جدته يوم سقوط عمه قتيلا في مظاهرات 1984. وعليه، فالمصائر في الرواية هي مصائر كشف الالتباس الكبير الذي يعيشه الإنسان في لقائه بالقدر. غير أن المهم، مرة أخرى، هو كيف نوظف هذه المقاربات كلها في الكتابة، وليس في نظرية الكتابة.

 

 

سيرة السجن

 

تجري وقائع الفصل الثاني من الرواية، في “سجن لعلو” في العاصمة الرباط، وهو السجن الذي قضى فيه الأشعري نفسه مدة اعتقال طويلة، خلال المرحلة التي عرفت في المغرب بمرحلة “سنوات الرصاص”. إذا لم يكن الأشعري قد كتب سيرته السجنية، أو مذكرات اعتقاله في هذه الرواية، كما هو واضح، ألا يمكن أن نقول إن الأشعري قد كتب سيرة السجن؟ يرى الأشعري أن من الممكن قول ذلك. “ولو لم أكن معتقلا سابقا لما استطعت أن أكتب ذلك (أو أرسمه).

 

 غير أنه، وكما أشرت إلى ذلك، ليس هنالك أي ظل لي في هذا الفصل من الرواية، وذلك لسببين: الأول، لأنني كنت مشغولا بشيء آخر غير السجن، أي بالشخصيات الموجودة في علبة المدينة، والشخصيات الموجودة في علبة السجن، والتي انتقلت من علبة المدينة إلى علبة السجن، كما هو شان بطلة الرواية ثريا بركاش”. على أن ما كان يهم الكاتب هو ذلك الربط الذي يحدث ما بين عالمين، إلى جانب “الرهان على أن أكتب السجن (أو أرسمه) بما هو مكان وأشخاص. أما في تجارب الاعتقال السياسي، فغالبا ما يتم بناء نوع من المسافة مع المكان الذي نعيش فيه، وهو السجن، رغم أنه، ومهما كان قاهرا، فهو يعج بالحياة” يضيف الأشعري هكذا، وهو يتحدث عن تجربته في كتابة هذه الرواية يردد، مرارا، هذه العبارة: “أكتبه أو أرسمه”.

 

عن هذه الملاحظة، ينبهنا الأشعري إلى أن الكثير من مقاطع هذه الرواية مكتوب بنوع من البصرية، “لأنني أردت أن أضع طوبوغرافية الأمكنة مشهديا، أمام القارئ، بالوصف والرؤية التي تقدم هذه الطوبوغرافية.

 

وهذا يتعلق، مرة أخرى، بتقنية الكتابة. “لقد أدركت، وأنا أكتب هذه الرواية، أنني يمكن أن أقوم بدور يشبه دور ذلك الشخص الذي كان متواجدا في السجن، في الفصل الثاني من الرواية، وهو يعرض أمام باقي السجناء أفلاما في شاشة مظلمة، بواسطة الكلمات، وليس الصور، طبعا. من هنا، جاءت الرواية مليئة بنوع من المشهدية. وهذه المشهدية هي من ضمن أهم اختياراتي في الكتابة”.

 

إلى جانب الرسم، هنالك العزف، أيضا، من خلال تلك الموسيقى التي تنبعث من مئات الطبوع والنوبات الأندلسية، وهي تتسرب من بين أنامل “معلّم” الطرب الغرناطي، وهو “بيدرو” عشيق شيمرات، أو تلك الأبيات والمقاطع الشعرية والموشحات والاستهلالات الغرناطية التي تأتينا شجية بصوت عماد.

 

هل كان كل هذا الغناء حنينا فقط إلى الرباط الأندلسية، أو إلى الأندلس المفقود؟ صاحب البوكر المغربي لا يريدها كذلك، وهو يشدد على أن الرواية ليست حنينا إلى الأندلس، بل هي محاولة لاسترجاع صراع قويّ بين روح أندلسية مستقرة في المدن، وبين محاولات سلطوية لإفراغ هذه الروح من محتواها. أو ما يسميه الكاتب “تأديب” للمدن، من خلال إغراقها في نوع من الارتجال والضحالة، وحرمناها من حقها في إنتاج الجمال والحضارة.

 

 

 وهذا كله لا ينبني، عند الأشعري، على حنين غامض نحو أندلس ضاعت في المدينة المغربية، بل ينبني على الوعي بكون التحولات التي تعرفها المدن إنما تنطوي على نوع من المكر. ذلك أن السلطة القسرية إنما تحاول خنق الروح التحررية للمدن، من خلال تعمير يحاول تكسير النسق الاجتماعي، وهذه السلطة تعرف أن للمدينة مكرها الخاص، وتستطيع أن تهرب بمساحات خارج إطارات السلطة ومشاريعها التدميرية، مثلما يستطيع السجن أن يهرب بمساحات شاسعة خارج الأداة القسرية التي تريد أن تختزله في إنسان مكسور ويائس.

 

 

الواقعية الحافية

 

في الفصل الثاني، والذي تدور أطواره داخل السجن، ثمة حكايتان تذرعان هذا الفضاء: حكاية تنتمي إلى الواقعية السحرية، وأخرى تنتمي إلى ما يسميه الأشعري “الواقعية الحافية”. هنا، يشير الكاتب إلى أن كل رواية وكل صيغة تحتمل أن تكون واقعية متخيلة، أو واقعية سحرية. ومن مشاهد الواقعية السحرية حكاية الفقيه الذي يغادر أسوار السجن كل ليلة، في غفلة من الجميع، للقاء بالخياطة. وفي المقطع نفسه قدمت الاحتمال الآخر الأقل سحرية من السابق.

 

ويمكن أن نعمم هذه النظرة على الرواية كلها. فمالك يمكن اعتباره بطلا، في سياق نوع من الواقعية السحرية، بطلا أسطوريا لجيل يقاوم الظلم والاستبداد، مثلما يمكن اعتباره مجرد ضحية عادية جدا، بسبب تقاطع عدد من الأحداث والمصادفات التي جعلته بطلا رغم أنفه. على أن كل المجهودات التي يبذلها من داخل السجن هو أن يسائل هذه البطولة التي نزلت عليه من السماء. فهناك الصيغة الواقعية، وهناك الصيغة المفترضة، كما صاغها الآخرون. والرواية مبنية في الكثير من تفاصيلها على صيغة أولى، وصيغة أخرى مضادة لها.

 

وعن حضور شخصية “الإسلامي” أو “الأصولي”، في نهاية الرواية، كما حدث في الرواية السابقة “القوس والفراشة”، وهذه المرة من داخل السجن، وهو الإسلامي الذي أطلق عليه السجناء لقب “ظهور الإسلام” بالكثير من السخرية المبطنة والرفض الضمني.

 

عن هذا الظهور، يورد الأشعري أن الفترة التي تحكي عنها الرواية كانت قد عرفت اعتقالات في صفوف الإسلاميين أيضا. لذلك “كان ضروريا أن أعطي صورة عن صنف من هؤلاء، من داخل التجربة السجنية، من داخل السجن وليس من خارجه. كيف يمكن أن تكون في وضع الضحية، وتعيش نوعا من الانفصام بين كونك تتعاطف مع الضحية، لأنه ضحية، وكونك تختلف معه، لأنه خصم سياسي”.

 

التفكير في نمط الحياة هو الشيء الأكثر محدودية في تجارب المجتمعات السياسية في وطننا العربي

ويتفق محمد الأشعري على أنه، وباستحضار هذه الشخصية، فقد تم توجيه نقد صريح للتقليدية التي باتت تكتسح مجتمعاتنا اليوم. ذلك أن هذه التقليدية “لا تبعث إلا على اليأس”، وهي تفرض عدم الإيمان بالمستقبل.

 

وأخطر ما في التقليدية عند الأشعري، وهو وزير الثقافة المغربي الأسبق، عملية استدعاء الماضي من أجل تعويض الحاضر ورفض المستقبل. من هنا، يتأكد أن بناء قيم مستقبلية مرتبطة بإنتاج الجمال ونشدان الحرية قضايا جوهرية وضرورية في ما نسميه بالإصلاح. ذلك أن الكثير من القضايا التي ينشغل بها المجتمع السياسي، ويعتبرها حلولا من أجل المستقبل، من قبيل الإصلاحات والنجاحات الاقتصادية والاجتماعية، مثلا، يستحضرها وينصرف إليها من غير التفكير في خلق مجتمع منتج للجمال، ومتعلق بالحرية. وفي جغرافياتنا العربية تجارب اقتصادية ناجحة، مثلا، ولكن المجتمعات التي تحتضن هذه التجارب لا جمال فيها ولا حرية.

 

من هنا، أعتبر أن التفكير في نمط الحياة هو الشيء الأكثر محدودية في تجارب المجتمعات السياسية في وطننا العربي. فهم لا يقولون لنا كيف سنعيش في المستقبل. ويتحدثون فقط عن نسبة النمو، وإصلاح الصناديق والأنظمة الاجتماعية.

 

فبعد كل هذه الإصلاحات، حتى لو تحققت، فإن السؤال الذي ينتظر الإجابة هو: كيف سنكون، وكيف سنعيش مستقبلا؟ هل سنعيش في ظل استمرار الخوف والحذر بين الناس؟ وهل سيكون هنالك من مجال للإبداع أكثر قوة؟ وهل نستطيع محاربة الرداءة؟ وكيف يمكننا الانتصار لقيم الجمال، وكيف يمكننا الاعتراف بالحق في التفكير والإبداع والخيال؟ يتساءل الأشعري، وهو يأسف لكون المجتمع السياسي لا يتوفر على رؤى واضحة في هذا المجال.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى