محمد الفيتوري.. الصرخة البيضاء

الجسرة الثقافية الإلكترونية

ناظم مهنا*

المصدر: السفير

أراد الفيتوري في مرحلة ما أن يكون صوت القارة الأفريقية في الشعر العربي، وكان هذا طموحاً مشروعاً إلى أبعد حد، فهو أولاً افريقي من السودان وهو عربي يكتب بلغة العرب، وربما كان يطمح إلى ماهو أبعد من ذلك أن يزاحم شعراء القارة الافريقية، من أمثال: سنغور، وداؤود ديوب، وإيمي سيزير وغيرهم في أن يكون المعبّر عن هذا الصوت الأفريقي.

ولو تحقق له هذا الطموح كاملاً لكان له وجود كبير على خريطة الشعر الإنساني في القرن المنصرم، وإن لم يبلغ كل ما طمح إليه لأسباب عديدة منها وجود شعراء أفارقة كبار آخرين صدحوا مثله بصوت أفريقيا لكن تميزوا عنه أنهم، بالإضافة إلى مكانتهم الشعرية، كتبوا مباشرة بلغة المستعمرين، ووصلت صرختهم الحارّة مباشرةً إلى أسماع هؤلاء ممن أرادوا أن يُسمعوا أنين الآخر وصوت عذاباته، أو ليروا أنفسهم في المرآةالأفريقية.

ربما لم يحالف الفيتوري النجاح في هذا الجانب، فقد نجح في الجانب الآخر، من جهتنا، في أن يصل إلينا نحن العرب على أنه صوت المنفرد للأفارقة في الشعر العربي بلا أي منازع، ولم يتصدَ أحد من الشعراء العرب لهذا الدور غيره، رغم تحدر عدد كبير منهم من القارة السمراء، فهو صاحب «أغاني إلى إفريقيا» و «اذكريني يا أفريقيا» و «عاشق من أفريقيا» حيث ظل الفيتوري محتفظاً في وجداننا بهذه المكانة حتى رحيله أو ربما بعد رحيله؛ وهذا بحد ذاته على المستوى الشخصي إنجاز كبير يحسب للشاعر.

الفيتوري في أذهاننا شاعر الصوت الغنائي، أو الصرخة المأساوية، أو البكائيات التي نسمعها بحنين وبحرقة عند كل فاجعة تلمّ بالأمة، وهو مثله مثل شعراء جيله العرب الرومانتيكيين الثوريين، شاعر موقف، وشاعر مصير في سياق مرحلة متألقة من الشعر العربي الحديث، ولهذا يؤخذ شعره بشموليته وبمجمله وبسياقه التاريخي على أنه شاعر مخضرم بين الكلاسيكية والتجديد؛ فمن المعروف أن الفيتوري ظلّ طوال حياته يحافظ على هذه المكانة بين الطرفين، وفي شعره حضور لهذين الملمحين المتناقضين. لقد كانت هويته الغالبة كشاعر هي هوية حداثة، ومضامين شعره مضامين حداثة، فهو داعية حرية وتمرد وتحرر وطني واجتماعي.

خرج الفيتوري إلى العالم العربي، تنقل وعاش في أمصاره شرقاً وغرباً ووسطاً: الاسكندرية والقاهرة، وبيروت وتونس وطرابلس الغرب وأخيراً في المغرب العربي، وكان حاضراً بقوة في الحياة الثقافية العربية، فاعلاً فيها ويحيا في خضمّها منذ خمسينيات القرن الماضي، وانطباعي الشخصي عنه من خلال شعره ومن خلال لقاءاته التلفزيونية، أنه ليس شاعر عزلة، بل تواصلي حميم ومرح رغم الألم والحزن، وهو منبري، وله حضور آسر في نفوس مشاهديه من محبي الشعراء.

أذكر أنني سمعته مرة يروي بطريقة آسرة في حوار تلفزيوني عن لقائه بالسيدة أم كلثوم في منزلها، بصحبة أنور السادات، نائب الرئيس آنذاك، حاملاً، بطلب من السادات، قصيدة له لتغنيها، لكن عندما قرأتها «الست» تبرمت من جديتها وطلبت منه أن «ينغنشها شويه» أي يخفف من ثقل دم القصيدة، لكنه لم يفعل رغم تأكيد السادات على ذلك.

أما وقد رحل الشاعر الكبير في هذه الأيام التي يزدحم فيها الموت ويجرف في طريقه الكبير والصغير، ورحيل أي شاعر هي خسارة فادحة! كان من حق الفيتوري قبل رحيله أن يقول باعتداد أو بألم: أشهد أنني قد عشت زمني بالحلم والأمل، وشاهدتُ الكثير من الزيف والهزائم والخيبات، ولأنني شاعر أزف وقت رحيلي ألوح لكم مودعاً بقصيدتي الأخيرة:» وأنت على صخور الموت تزدهر».

ناظم مهنا

(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى