محمد اليحيائي يفشي أسرار «السلطنة الصامتة»

الجسرة الثقافية الالكترونية

*أحمد زين 

المصدر: الحياة

 

الصورة التي يقترحها الكاتب العماني محمد اليحيائي في روايته «حوض الشهوات» (دار الانتشار العربي) للمجتمع في بلاده تتبدى على قدر كبير من الغموض والالتباس والتشظي، صورة مليئة بالرموز والإحالات إلى أزمنة سحيقة يختلط فيها الواقع بالخيال والسحر بالأسطورة، وأخرى قديمة نسبياً تطبعها الحروب والصراعات، وزمن حديث تسحق فيه الأحلام ويتسمم الناس بالأمل ثم يموتون. ينجح صاحب «طيور بيضاء طيور سوداء» في كتابة رواية تحفل بالأحداث المهمة، والقضايا الإشكالية والمواضيع المسكوت عنها، وأيضاً الشخصيات التي تنتمي إلى لحظتها الخاصة، وأضفى عليها أبعاداً متشابكة، واقعية وغرائبية في آن، خصوصاً المرأة التي يمكن عدها المحرك في الرواية وسر فاعليتها. وفي موازاة ذلك شيّد بنية فنية أفادت من الأساطير والمحكي الشعبي والترميز ومن تقنية الرواية داخل والرواية وصيغة التقارير السرية وأخيراً البناء الدائري. من حرب الجبل بين الإمام والسلطان في خمسينات القرن الماضي، مروراً بحروب ثوار حلف القبائل في مواجهة السلطان، والحرب ضد الغزاة، إلى قتال الشيوعيين وقمع ثورتهم، من إمبراطورية مهابة الجانب، عرفت التمدد والتوسع، إلى سلطنة صامتة منكمشة على نفسها، كل ذلك يجد له مكاناً في «حوض الشهوات»، التي يمكن عدها رواية عمان بامتياز. تبدد «حوض الشهوات» من خلال تشابك الأحداث ومآل الشخصيات التي انتهت إما إلى الموت أو الهرب من البلاد أو الصمت، الانطباع الذي تكرس حول الشخصية العمانية، وتفكك الصورة النمطية المتداولة في شأنها، وتدحض كل ما هو سلبي في هذه الشخصية وتعزوه إلى السلطة، التي هي عبارة عن خليط مريض من البعثيين والشيوعيين والإماميين والرأسماليين والانتهازيين وشيوخ الدين والقبائل والسماسرة، الذين يبدلون جلودهم وفقاً للمرحلة والمناسبة. وبالتالي فصورة المجتمع التي تستقر في الأذهان وتكتنفها الأسرار ويغلفها الصمت ربما لن تعود كذلك بعد قراءة هذه الرواية، التي تنزع إلى التعرية والمساءلة والانتقاد. ولئن بدا أحياناً أن الرواية تكرّس ما هو مكرس أصلاً حول «السلطنة الصامتة»، فإن اليحيائي سرعان ما ينقض ذلك روائياً. يبدو المجتمع بلا صوت، قنوع وراض مرة، ويدور في حلقة مفرغة مرة أخرى، لذلك تأخذ الرواية شكل الصرخة المديدة، وهي تسعى إلى قول ما لم يجرؤ المجتمع على التعبير عنه، وهي لا تقول المجتمع بقدر ما تحاول استنطاقه وإفشاء أسراره. تحكي الرواية التي تتميز بلغة شاعرية وتتعدد فيها المستويات، مصائر شخصيات تمثل جيلاً وُلد في مرحلة تحولات عاصفة فوجد نفسه في قلبها، ثم خارجاً منها وعليها، قبل أن يفقد الارتباط بها. جيل مزّقته الهزائم ودفع الثمن باكراً، جمعت أفراده الأحلام في القاهرة، حيث ذهبوا للدراسة فتفتح وعيهم هناك، وتبلورت الخطط التي رغبوا في تحويلها واقعاً، ما إن تطأ أقدامهم أرض الوطن، بيد أن الحلم كان كبيراً، فائضاً على حاجة تلك البلاد، التي للتو استيقظت من نوم طويل، وأخذت تنفض عنها غبار النسيان. كان على التظاهرة، التي نظمها العمال احتجاجاً على أوضاعهم المأسوية، وانضم إليها هؤلاء ظناً منهم أنهم سيغيّرون شيئاً، أن تضع حداً للأحلام التي بقوا طويلاً يربونها، وأن توقف حماستهم في رؤية البلاد تستعيد اسمها ومكانتها وقوتها. انهال الرصاص عليهم، في تلك الظهيرة القاسية، واقتيد بعضهم إلى السجن. جيل الحروب والصراعات التي بلا معنى، تاق طويلاً إلى التغيير، إلا أن البلاد تغيّرت، «عدنا فوجدنا البلاد وضعت جمرة على رأسها وسحبت نفساً عميقاً وسطلت».

حرب الجبل الأخضر يعود سالم مطر من منفاه، أميركا، بعد أكثر من 30 سنة نفياً واغتراباً. سالم مطر الذي عرف النفي باكراً وهو طفل لما يتجاوز بعد السابعة من عمره، عندما انتصرت قوات السلطان في حرب الجبل الأخضر على الإمام في 1959، بمعاونة الإنكليز الذين دكت طائرتهم الجبل وساوته بالتراب، «كان التدمير عادلاً، لم يستثن سوى بيت الله». حينئذ تم تهجيرهم من الجبل. يستدعي صاحب «يوم نفضت خزينة عن منامتها الغبار» الجبل وحربه، بلغة تتسم بجيشان عاطفي وحنين جارف وكثير من الشجن، هذه الحرب التي ستترك ندوباً لن تندمل في ذاكرة كل من سالم مطر وليلى سليمان زوجته ورفيقة عمره. يرجع سالم وحيداً إثر موت زوجته، ويلتقي مبارك حمدان رفيق أحلامه ودراسته في القاهرة، اللذين عاشا الصدمة نفسها. رفض مبارك حمدان الهرب يومها، وبقي متشبثاً بحلمه، أن يعيش ويعايش ما يحدث وأن يواجه التحديات. لم يعد مبارك من القاهرة كما تمنت له أمه، طبيباً أو مهندساً، إنما صحافياً يحلم بأن يصير كاتباً مشهوراً. يقول مبارك، الذي وبعد أكثر من ثلاثة عقود في الصحافة لا يقدر أن يكتب مقالة عن الأخطاء والفساد والبؤس، إن العمانيين لا يعرفون الرفض بصوت عال، إنهم يحبسون غضبهم في نفوسهم ويغصون به ويموتون. ويعترف بأن المجتمع انتهازي وأنهم كلهم انتهازيون، وينتهي إلى أن الحكومة نجحت في تفصيل مجتمع على قياسها وذوقها. ستبدو البلاد مختلفة في عين سالم مطر، والناس صامتون أو يتكلمون في سرهم. يفكر سالم في أن الجميع تحطم، سواء من هاجر أم من بقوا، ويشعر بالغربة وأن كلامه غير مفهوم. وعلى رغم الصورة التي تدفع إلى اليأس، فإن تغيراً طرأ على مواقفه ورؤيته للأشياء. فسالم مطر الذي عرفه مبارك حمدان وسواه، من أصدقاء القاهرة، مات. سالم الذي كان ثائراً له هيئة عبدالناصر وبحة الحزن لدى عبدالحليم، أصبح مهادناً. يرى مبارك أن سالم، الذي كان خليطاً من الحكماء والفوضويين والعبثيين والقوميين والحالمين والواقعيين، تنكر لقضيته ولنفسه هو ولأحلامهم جميعاً. فهل فعل الزمن فعله به، كما يقول مبارك، فأصبح يتكلم مثل السياح والصحافيين الذين تدعوهم الحكومة وتغدق عليهم الهدايا، فيعودون إلى بلدانهم ليسددوا الفاتورة بمقالات تشبه ما يقول سالم نفسه؟ يتجول سالم مطر على الأماكن التي عرفها يوماً، من دون أن ينتبه إلى أن سائق التاكسي مخبر، يدوّن تحركاته وأدق التفاصيل، ويغوص في حزن بلا ملامح. لم يعد لمن يعرفهم وجوداً، شتّتهم الهجرة وبعضهم مات وآخرون لاذوا بالعزلة. فجأة تبدت عمان لسالم مكاناً يحب العابرين وليس المقيمين، لتعاوده فكرة الهجرة من جديد، لكن ليس إلى أميركا ثانية، إنما إلى الهند.

العيش في المرايا تفتتح الرواية وتختمها فصول تبدو لا علاقة لها بالحدث المركزي، غير أنها تدور حول شخصية واحدة مسكونة بالذكريات، تعيش في المرايا، تحب ذاتها وتكرهها في آن. تارة يكون شخصاً يصف نفسه بالمخادع والمحتال والممثل الذي تعتب منه أدواره، وتارة أخرى يتحول شخصيتين متداخلتين، أنا وآخره، يتبادلان العتب والاتهامات بالخيانة، خيانة الأحلام والواقع. يمتزج في هذه الصفحات التي تأتي في هيئة مونولوج طويل، الفانتازي بالواقعي والماضي بالحاضر والتاريخي باليومي، ولا تخلو من السخرية السوداء والانتقادات المضمرة. وعلى رغم الطابع الغرائبي لهذه الشخصية، والتي كأنما تخرج علينا من إحدى الأساطير الشرقية، إلا أنها تعيش في إطار شديد الواقعية، ما يجعل هذه الشخصية مشدودة بوشائج عدة إلى شخصيات أخرى في الرواية، تأخذ منها وتعطيها، يرسخ من ذلك حال الارتباك والخذلان والخسارة أيضاً التي تعتري الكل. في رواية محمد اليحيائي الجميع يريد أن يحكي ويكتب. يحاول مبارك أن يحكي حكايتهم كلهم، لكن المشكلة ليست في ماذا يكتب، إنما كيف يكتب ما سيكتبه؟ يرى أن البلاد تفقد ذاكرتها، وأنه لا بد من أن يكتب إحدى الحكايات الكثيرة. سالم مطر أيضاً يفكر في الكتابة ويشغله ماذا يكتب، هل يكتب عن حرب الجبل وجامع الإمام وطائرات الإنكليز، الذين يلعبون على التناقضات وأوهام السلطة لدى كل طرف فأحكموا سيطرتهم على البلاد، أم يكتب حكاية عشرات الأعوام التي عاشها في أميركا؟ ليفضل أن يكتب حكايات حرة وخفيفة عن طلابه وطالباته عن المستقبل لا الماضي. ليلى سليمان وحدها من كتبت رواية، لها العنوان نفسه «حوض الشهوات» وصدرت عن الدار عينها «الانتشار العربي» وفي السنة نفسها. تكتب ليلى عن روز التي تعيش في ظلام القصور وحيوات سكانها. رواية ليلى سليمان غير واضحة، فهي تراوغ وتلجأ إلى الأساطير والتاريخ المتخيل، وتأتي في بناء دائري، الدائرة نفسها التي يدور فيها المجتمع من دون أن ينجح في رؤية نفسه.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى