محمد ديب خارج النسيان

الجسرة الثقافية الالكترونية

*أوراس زيباوي

 

انطلقت في باريس الجمعية العالمية لأصدقاء الأديب الجزائري محمد ديب، ومن أهدافها نشر أدبه والتعريف به في فرنسا والعالم وإحياء نشاطات حوله وحول أعماله. تضم الجمعية شركاء متنوعين ومنهم «مكتبة فرنسا الوطنية» و «معهد النصوص والمخطوطات الحديثة». من أهداف الجمعية أيضاً توسيع نطاق الأبحاث التي تُعنى بنتاج ديب لتشمل الأنثروبولوجيا والتاريخ والميثولوجيا، ومساعدة كلّ من يهتم بنتاجه وسيرة حياته ويكرّس جهوده لإبراز وجوه غير معروفة في أدبه.

في هذا السياق، ستنظّم الجمعية كل عام مؤتمراً ثقافياً حول نتاج ديب ولقاءات متخصصة تشرف عليها لجنة علمية. وستقيم الجمعية معارض ونشاطات ذات طابع تربوي تتوجه إلى الشباب، وبخاصة أولئك الذين يعانون من التهميش والبطالة ويقيمون في الضواحي الفرنسية الفقيرة. وتُحضّر الجمعية أيضاً لحدث كبير سيقام عام 2020 بمناسبة مرور مئة عام على ولادة محمد ديب.

يترأس الجمعية الأستاذ الجامعي عبدالهادي منصور، أما رئيس هيئتها العلمية فهو شارل بون المتخصص بأدب محمد ديب. وهذه الجمعية لم تكن لتوجد لولا الجهود التي بذلها عدد من عشاق أدبه وأولهم ابنته كاترين التي تتولى منصب السكرتيرة العامة للجمعية. وهي كانت من المشاركين في المؤتمر الذي احتضنه «بيت أميركا اللاتينية» قبل عامين تحت عنوان «تحية إلى محمد ديب»، وكان تحت رعاية وزارة الفرنكوفونية وساهمت فيه نخبة من الأكاديميين التي أجمعت على ريادة محمد ديب وما يمثّله بصفته علامة استثنائية في الأدب الجزائري والفرنكفوني.

محمد ديب الذي رحل عام 2003 في ضاحية سان كلو الباريسية وكان تجاوز الثمانين من عمره ترك نتاجاً موزعاً بين الروايات والدواوين الشعرية والمجموعات القصصية والمسرح. وهو كان أول كاتب من المغرب العربي يحصل على جائزة الفرنكوفونية عام 1996 التي تمنحها «الأكاديمية الفرنسية». فرض محمد ديب نفسه كروائي منذ مطلع الخمسينات بعد صدور رواية بعنوان «البيت الكبير» عن دار «سوي» الباريسية. في رواياته الأولى، طغى الموضوع السياسي والاجتماعي وعكس التزامه بالقضايا الكبرى التي كانت تعيشها الجزائر آنذاك. أما في مرحلة الثمانينات فكانت كتابته أقرب من الذات الحميمية وتأملاتها وأسئلتها كما في ثلاثيته «أرصفة أَرسُل» (1985) و «نوم حواء» (1989) و «ثلوج الرخام» (1990). في هذه الثلاثية، وخصوصاً في فصلها الأخير، رسم الكاتب ملامح جديدة من العلاقة مع الذات في مواجهتها لنفسها والآخر. والآخر، هنا، هو الزوجة والابنة. الرجل الآتي من الجنوب ينفصل عن المرأة القادمة من الشمال، وهذا الانفصال يؤدي إلى خسارة الجامع المشترك بينهما، أي ابنتهما الصغيرة.

من رواياته التي تنطلق من التاريخ اليومي والمعيش، إلى الحياة الحميمة والعلاقة مع المرأة وأسئلة الحبّ، تتبلور المشاهد التي يتحرّك ضمنها أدب محمد ديب. وموضوع الحبّ أصبح حاضراً في أدبه منذ مطلع الخمسينات من القرن العشرين، مع رواية له بعنوان «من يتذكر البحر». ثمّ عاد إلى الموضوع نفسه بأساليب وطرق مختلفة لدرجة أن رواياته الأخيرة أصبحت وكأنها تلامس الموضوعات التي يتناولها بصيغة شعرية. حتى عناوينها تدلّ على ذلك، ومنها على سبيل المثل «ثلوج الرخام».

الشعر حاضر بقوّة في أعمال ديب الروائية. فهو شاعر يكتب الرواية، ويكتبها وفق مناخ شعري عام، وليس فقط من خلال ومضات تطالعنا هنا وهناك في النص. وهذا ما ينعكس على البناء الروائي ككل، فلا تعود الرواية قائمة على حبكة واضحة وعلى تسلسل في السرد يُراد منه إيصال فكرة محددة واضحة. هكذا تقوم الكتابة الروائية على الإشارة والتلميح ولا تغوص أبداً في الوصف والاستطراد، وبذلك يتكشّف جانب مهمّ من نتاج الكاتب، لا سيما في أعماله الأخيرة، ألا وهو العمل على اللغة وابتكار مناخ لا تعود معه الفكرة سوى محطة من محطات كتابته الروائية وليس هدفها.

في «ثلوج الرخام» أيضاً نسمع الابنة تقول: «يسميني والدي أحياناً نفرتيتي… والدي وأنا، كلّ منّا يتحدث بلغته الخاصة. لكني أفهم كل ما ينطق به حتى حين لا أعرف معنى ما يقوله. وأفهم كل ما لا يقوله أيضاً. على الأطفال الضائعين أن يفهموا وأن يبتسموا حتى لا يأخذهم البكاء». في مكان آخر، نقرأ: «أنظر الآن من النافذة وأرى الليل يضيء شموعه الصغيرة، بعضها في السماء وبعضها الآخر على الأرض، في أمكنة ليست بعيدة. ويخيّل إليّ أنّ المنازل، وراء السياج، تفتح عيونها بعدما نامت طول النهار. نحن أيضاً نستطيع أن نضع شمعة على الطاولة ونقول إننا نحتسي الشاي مع نجمة… وحين ننام، فهل ينام الليل أيضاً؟»

تمضي الأمّ ومعها الابنة، ويبقى الكاتب متكئاً على شرفته يراقب رحيلهما، بل هو يعيش ويكتب في ظلّ غيابهما. من هنا، فإنّ علاقة الحبّ والغياب، الحبّ والموت، التي تكشف عنها «ثلوج الرخام» هي أحد الملامح الأساسية التي يتمحور حولها نتاجه بأكمله، وهي تجسيد للصراع الذي يعيشه مع طفولته وهويته ولغته، وكذلك مع الآخر، ما يقرّبه منه وما يبعده عنه.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى