محمد رفيق خليل وكلماته الأخيرة عن إسكندرية أمل دنقل

فجعت الحياة الثقافية السكندرية هذه الأيام بنبأ رحيل الدكتور محمد رفيق خليل، ليس فقط لكونه أحد أهم جراحي الوجه والعنق على مستوى وطننا العربي، ولا لأنه أفضل من رأس مجلس إدارة أتيليه الإسكندرية إلى يوم وفاته، ولكن لأنه مثقف كبير تعمق في دراسة الحضارات القديمة، وكتب الشعر، وتخصص في التذوق الفني، وكانت له رؤية تشكيلية عميقة مكنته من أن يتعامل بوعي وتقدير مع كبار فناني الإسكندرية التشكيليين ممن كانت لهم مراسم داخل مبنى الأتيليه، أو سواهم من مبدعي المدينة الذي كان له الفضل في ترشيحهم لنيل جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية وجوائز التفوق وجائزة النيل ومساندتهم إلى أن يفوزوا دون أن ينتظر هو من يرشحه لجائزة، أو ينظم له ندوة لمناقشة شعره.

وقد كان الدكتور محمد رفيق خليل زاهدًا، وإن لم يكن يبخل بماله ووقته على مبدعي الإسكندرية، فكانت عيادته مفتوحة بالمجان أمام مبدعي الإسكندرية جميعًا ولكم بذل من ماله لصالحهم، ولعل آخر موقف نبيل أقدم عليه في صمت هو تبرعه بمائة وعشرين ألف جنيه لتجديد شبكة كهرباء الأتيليه، ولذلك فقد تعرض لصدمة عنيفة عندما بلغه نبأ الحكم لصالح ورثة مؤجري مبنى الأتيليه بطرد المبدعين منه وامتداد معاول الهدم إلى أثر من آثار الشرق الثقافية لتختفي من الوجود إلى الأبد!

فنقل الطبيب الذي تعلقت به حياة مبدعي الإسكندرية، إلى الرعاية الفائقة بإحدى مستشفيات الثغر لتسدل على حياته ستار الختام بعد عدة أيام. ولا تبقى منه إلا ذكرياتنا المتفرقة معه، وابتسامته الصافية التي لم تفارق وجهه أبدًا، وحنوه على كل من عرف، ورقي سلوكه، وعمق تفكيره، وجمال لغته.

مات الدكتور محمد رفيق خليل ولا أزال أتذكر ولعه بالشاعر أمل دنقل الذي طالما حدثني عنه قائلًا: لأمل دنقل في مخيلتي صورة هذا الشاعر الأسمر المليء بالتمرد والعنفوان، إلى جانب وداعة ودماثة تعطران روحه.

وهناك بيت شعر له حي في ذاكرتي، تجده في مطلع قصيدة “طفلتها” التي استمعت إليها منه أثناء وجوده الوجيز والعميق هنا في الإسكندرية في أوائل ستينات القرن الماضي.

وربما لأن هذا البيت يصف أمل الذي اعتز دائمًا بمبادئه، وظل محاربًا من أجلها، حاملاً هَمَّ المجتمع والوطن كهم خاص به، وكان قادرًا على استشراف المستقبل بعيني زرقاء اليمامة، ناصحًا قومه بألا ينخدعوا بالبريق الزائف.. وألا يصالحوا عدوهم.

يتأوه صديقي الدكتور محمد رفيق خليل وهو يستعيد ذكرياته مع أمل ويقول: عرفت أمل دنقل في تلك الفترة (1962- 1964) حين قدم إلى الإسكندرية من الصعيد (بعد عام قضاه في القاهرة).

وكنت صبيًّا أحاول أن أطرق دروب الشعر والثقافة في منتديات الأدب الموجودة آنذاك هنا في الإسكندرية، فتعرفت على هذا الشاعر الشاب عن طريق اثنين من متمردي الشعر آنذاك؛ عبدالمنعم الأنصاري وسيد الشرنوبي.

 وكان الثلاثة روادًا للحداثة وللرفض الإيجابي (الذي يختلف عن الغضب)، إلى جانب شاعر أكبر منهم بعقدين، ومشارك لهم في التمرد والتجديد، وهو محمود العتريس.

وكانت بداية الستينات من القرن العشرين لحظة فارقة (كايروس) في الثقافة العالمية، وفي الثقافة المصرية عامة وثقافة الإسكندرية بخاصة.

ويجب مناقشة كل نقطة من هذه النقاط لنفهم بدايات أمل دنقل.

في تلك المرحلة بدأت كتابات وأفكار الرفض تظهر في أوروبا؛ الرفض للمجتمع الكلاسي وقيمه، والتطلع إلى حداثة وفكر جديدين، وكان كتابا (اللامنتمي لكولن ولسون) و(انظر وراءك في غضب  لجورج أوسبورن) وثيقتي هذا الفكر الجديد الذي تبعته فيما بعد كتابات هربرت ماركيوز وفرانز فانون… إلخ.

كانت هذه الأفكار تجيء إلى مصر مع أسرع وأوسع حركة ترجمة شهدتها البلاد أيام تولي ثروت عكاشة وزارة الثقافة، وكانت محور النقاش لدى شباب المثقفين المصريين والتقت بأفكارهم النازعة إلى التقدم، وإلى الخروج من الثوب البالي، مع الحلم بتكوين بنيان حضاري جديد.

ننتقل للّحظة الفارقة في الثقافة المصرية، وترتبط بثلاثة أبعاد: بعد التحول الاقتصادي نحو الاشتراكية وتغيير مفاهيم الملكية الفردية والملكية العامة والتوجه نحو المساواة وتكافؤ الفرص، وبعد القومية العربية والنزوع إلى الوحدة وتقوية العوامل العروبية في الثقافة على حساب الإقليمية المصرية، والفكر الليبرالي الغربي اللذين سادا لمدة خمسة عقود خلت.

والبعد الثالث هو بعد الأحادية السياسية (على نقيض التعددية الحزبية السابقة)؛ وما استتبع ذلك مما قارب الدكتاتورية.

أما عن الإسكندرية فقد شهدت هذه الفترة بداية غروب الحضارة الكوزموبوليتانية السكندرية برحيل العديد من الأوروبيين الذين كانوا يكوّنون جزءًا كبيرًا من نسيج الإسكندرية، وإن ظلت ثقافتهم لفترة تالية ممثلة في منتدياتهم الثقافية الأوروبية، إلى جانب “أتيلييه الإسكندرية” الذي ظل طوال تاريخه جسرًا يين الثقافتين: العربية والأوروبية، وظل المكون الفرانكفوني سائدًا فيه حتى بداية التسعينات من القرن العشرين.

أما عن ثقافة الإسكندرية المصرية والعربية فقد تمحورت حول قصر ثقافة الحرية، وقاعات كلية الآداب، والمنتديات الأدبية التي كان يقيمها بعض شعراء الإسكندرية مثل: نقولا يوسف، والأخوان خليل، وصديق شيبوب، والشعراء الشبان المتمردون مثل: أمل دنقل وعبدالمنعم الأنصاري وسيد الشرنوبي ومعهم المتجدد دائمًا محمود العتريس.

وكان هناك وجود متألق لشعراء الإسكندرية وكان الاتجاه الكلاسي بارزًا (إدوار حنا سعد – الدكتور عمر الجارم – عبد القادر العوا – عبد العليم القباني – أحمد السمرة – صديق شيبوب – صالح المصري) إلى جانب شاعرات شابات مبدعات (وفاء السنديوني – عزيزة كاطو – فلوري عبدالملك)، وكان هناك عدد من كبار أساتذة الأدب عاكفين على رعاية الحركة الثقافية السكندرية مثل: الدكتور حسن ظاظا – الدكتور محمد زكي العشماوي – الدكتور حلمي مرزوق – الدكتور محمد مصطفى هدارة…).

وأثناء شهور الصيف كانت الحياة الثقافية بالإسكندرية تُثْرى بوجود كبار شعراء وكُتّاب مصر الذين كانوا يسهمون في هذه الحياة وينعشون الدماء في عروقها.

كانت الأمسيات الثقافية عادة ما تبدأ في قصر ثقافة الحرية ثم تمتد إلى مقاهي الإسكندرية مثل: مقهى النيل بالمنشيه، وتستمر المناقشات والقراءات حتى منتصف الليل، أو في قاعات كلية الآداب، أو أتيلييه الإسكندرية أو في البيوتات.

في هذه الظروف كلها عالميًّا ومصريًّا وسكندريًّا عرفت أمل دنقل.. وعرفت معه التمرد والرفض المختلف عن الغضب، فالغضب مجرد انفعال، أما الرفض فهو موقف يؤدي إلى اقتراح واقع جديد.

عاش أمل دنقل في الإسكندرية بنسيجها متعدد الألوان وتأثر بها. ربما يكون قد خاف منها في البداية مثلما قال الأديب الفرنسي ألفونس دوديه لدى وصوله إلى باريس (إيه يا باريس. يا لك من مدينة متوحشة)، ومثل هذا نجده في قصيدة بعنوان “رسالة من الشمال”:

“هي اسكندريةُ بعد المساء

شتائية القلب والمحضنِ.

شوارعها خاويات المدى

سوى حارس بيَ لا يعتني”.

ونجده في نهاية القصيدة واصفًا الإسكندرية بشمال الشمال حيث يعتبرها قطعة من أوروبا خارج مصر؛ فيقول:

“أنا قادم من شمال الشمال

لعينين في موطني، موطني”.

ولكننا نراه بعد ذلك يختزل المدينة في المقهى الصغير ذي الطابع المتوسطي (بيتي تريانون) إذ يعتبره اختصارًا للمدينة والغربة فيها، ولديمومة الحياة بها:

“لم يعد يذكرنا حتى المكانْ

كيف هُنّا عنده والأمس هانْ

قبلَنا يا أختُ في هذا المكانْ

كم تناجى وتناغى عاشقانْ

ذهبا ثم ذهبنا وغدًا

يتساقى الحب فيه آخرانْ

فلندعه لهما ساقيةً

دار فيها الماء ما دار الزمانْ”.

لكنه سرعان ما يندمج في المدينة بكل ما فيها من طبائع مصرية وغربية يلتمس الراحة في الحضن الدافئ للمدينة، ويحدثها عندما يخاطب “ماريا” ساقية المشرب:

“قد جئنا الليلةَ من أجلِكْ

لنريحَ العمرَ المتشرد خلف شعاع الغيب المهلِكْ

في ظل الأهداب الإغريقية

ما أحلى استرخاءة حزن في ظلكْ

في ظل الهدب الأسود”.

ونجد الإسكندرية ماثلة في شعر أمل دنقل حتى حين يتحدث عن روما سبارتاكوس، فيذكر اسم شارع الإسكندر الأكبر في الإسكندرية حتى ينقل المعادل الموضوعي لثورة سبارتاكوس إلى أديم مصر، طاويًا الزمان والمكان:

“يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقينْ

 منحدرينَ في نهاية المساءْ

 في شارع الإسكندر الأكبرْ

لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إليْ

لأنكم معلقون جانبي على مشانق القيصرْ”.

من هو القيصر؟! هل هو الزعيم الذي أحبه أمل لمشروعه القومي وكره ديكتاتوريته.. أم هو القوى الغاشمة الكبرى التي سعت إلى وأد حلمنا الوطني للتقدم؟!

قد تكون الإجابة هذا أو ذاك، ولكن الشيء المهم أن “من قال لا فلم يمتْ، وظل روحًا عبقرية الألم”.

رحم الله أمل دنقل ومحمد رفيق خليل.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى