محمد مندور.. حضور طاغ بعد نصف قرن من الرحيل

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

 

 

مصطفى عبد الله 

 

لن أنسى واجهة هذه المكتبة العريقة التي كنت أمر عليها أسبوعيًا في شارع كامل صدقي بحي الفجالة الذي كانت تتجاور فيه المطابع والمسابك مع دور النشر والمكتبات والقرطاسيات التي يقصدها القاهريون والوافدون بحثًا عن احتياجاتهم من الكتب الدراسية والثقافية والكراسات والأقلام والأوراق وما إليها من مستلزمات الكتابة كافة؛ كانت هذه الدار التي أقصدها وتجتذبني في واجهتها أغلفة مؤلفات: العقاد، ومحمد مندور، ومحمد غنيمي هلال تقع في الصف المواجه للدار التي تصدر مؤلفات نجيب محفوظ، والسحار، ومحمد عبدالحليم عبدالله، وأمين يوسف غراب، أو الأخرى التي تصدر كتب سلامة موسى، وسواه من ألمع كتاب ذلك الوقت.

 

كان ذلك في مستهل السبعينيات من القرن الفائت، وأنا أتطلع إلى المستقبل، ولا أتصور أنه سيرتبط ارتباطًا وثيقًا بعالم مندور ورفاقه، بمجرد أن تتجه بوصلتي لدراسة النقد والأدب المسرحي بأكاديمية الفنون المصرية التي تصادف أن تكون أول محاضراتي بها في المدرج الكبير الذي يحمل إسمه!

 

تداعت هذه الذكريات اليوم وأنا أتابع تفاصيل هذه الاحتفالية الدولية التي يعقدها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة صباح الإثنين المقبل بمناسبة مرور نصف قرن على رحيل أستاذي شيخ النقاد محمد مندور، وتستمر يومين، تحت عنوان “محمد مندور بين الفكر الأدبي والفكر السياسي”، بمشاركة أكثر من 60 أديبًا وناقدًا ومفكرًا وسياسيًا من مصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس، كما أكد لي وائل حسين، المسؤول عن أمانة المؤتمرات بالمجلس الأعلى للثقافة الذي أضاف بأن قوام الاحتفالية 7 جلسات؛ يرأس الجلسة الأولى الدكتور صلاح فضل، ويتحدث فيها: إبراهيم فتحي عن “تطور المنهج النقدي عند محمد مندور”، وعبدالسلام المسدي عن “محمد مندور: عالم اللسان الذي ضل سبيله”، وفتحي أبوالعينين عن “رحلة مندور من النقد التحليلي إلى النقد الأيديولوجي”، وكريم مروة عن “محمد مندور السياسي”، ومحمد عبدالمطلب عن “محمد مندور والقراءة الثقافية للنص”.

 

ويرأس حلمي شعراوي الجلسة الثانية التي يتحدث فيها: أحمد بهاء الدين شعبان عن “محمد مندور: الأفكار السياسية والانحيازات الاجتماعية”، وجمال شقرة عن “محمد مندور والفكر السياسي”، وعمار علي حسن عن “مواقف وأفكار لتمرد دائم”، ويوسف أبوالعدوس عن “محمد مندور ناقداً”، ومحمد الشافعي عن “قلم مندور الهادر.. والصحفي الثائر”.

 

أما الجلسة الثالثة التي تبدأ في السابعة مساءً الاثنين، فيرأسها الدكتور محمد شاهين ويشترك فيها: شوكت المصري متحدثًا عن “مندور .. قراءة في كتاب الشعر المصري بعد شوقي”، وعبدالسلام الشاذلي عن “قراءة مندور للتراث في ضوء النظريات الأدبية المعاصرة”، ومدحت الجيار عن “محمد مندور التنظير والتأثير”، ومسعد عويس عن “رسائل من جيل محمد مندور إلى قادة العلم والثقافة والسياسة في الوقت والراهن”، وهويدا صالح عن “محمد مندور ناقداً”.

 

وتبدأ فعاليات اليوم الثاني في العاشرة صباحًا بالجلسة الرابعة؛ ويرأسها أنور مغيث، ويتحدث فيها: صلاح السروي عن “تطور الرؤية النقدية عند مندور من الجمالية الإنسانية إلى النقد الأيديولوجي”، وعبدالرحيم العلام عن “الحاجة إلى مندور.. نحو وضع اعتباري للآدب”، وعمر شهريار عن “مفهوم النقد عند محمد مندور”، وهدى توفيق عن “النقد القصصي عند مندور”.

 

كما يرأس العلام الجلسة الخامسة، وفيها تقدم سلوى بكر ورقة عنوانها “من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث”، ويتحدث سيد محمود عن “مندور وانتفاضة العمال والطلبة في 1946″، وشوقي بدر يوسف عن “مندور وأثر الثقافة الأوروبية على تراثه الفكري والنقدي”، ومحمد إبراهيم طه عن “نماذج بشرية.. قراءة في المنهج”، ونبيل حداد عن “محمد مندور والصحافة التفاتات ريادية في التنظير والممارسة”.

 

ويرأس الجلسة السادسة أحمد مجاهد، حيث يتحدث: عبدالرحمن حجازي عن “المنهج الأسلوبي عند مندور”، وعزة كامل عن “مندور ورؤيته في التطور الثقافي”، ومحمد شاهين عن “موقع مندور من النقد الأدبي المعاصر والنظرية الأدبية”، ومحمود الضبع عن “محمد مندور والفكر النقدي”.

 

كما تعقد في السادسة مساءً مائدة مستديرة بعنوان “محمد مندور بين الفكرين الأدبي والسياسي”، يديرها الدكتور جابر عصفور، ويشترك فيها: أحمد مجاهد، وأنور مغيث، وخيري دومة، وشعبان يوسف، وكريم مروة، وعبدالرحيم العلام، وعبدالرشيد محمودي، وعبدالقادر حميدة، وماجد يوسف، ومحمد شاهين، ومحمد صلاح زيد، ومروة مختار، ونبيل حداد، وهدى وصفي، وهيثم الحاج علي، يوسف أبوالعدوس.

 

وتبدأ الجلسة السابعة والأخيرة في الثامنة مساءً، ويرأسها يوسف أبوالعدوس، ويتحدث فيها: محمد عليوة عن “لغة النقد عند محمد مندور”، وصالح سليمان عن “مرتكزات الفكر النقدي والاجتماعي والسياسي عند مندور”، ومحمد يونس عبدالعال بورقة عنوانها “من رسائل محمد مندور إلى طه حسين”.

 

وبهذه المناسبة يصدر المجلس الأعلى للثقافة عدداً من الكتب حول محمد مندور منها: “محمد مندور شيخ النقاد، محمد مندور ذكريات أدبية”، كما يصدر المركز القومي للترجمة عددًا من ترجمات محمد مندور.

 

في ورقته يشير الناقد خيري دومة إلى أن مندور حين كان واحدًا من النقاد اللامعين في الأربعينيات والخمسينيات، لم تكن دراسة فنون السرد قد ازدهرت بعد في ثقافتنا. كانت هناك دراسات معدودة متفرقة لهذه الفنون، لعل أبرزها ما كتبه محمد يوسف نجم ومحمود حامد شوكت أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ثم ما كتبه بعد ذلك يحيى حقي وعبدالمحسن طه بدر أوائل الستينيات. كان مندور الناقد والسياسي والصحفي والأستاذ المثقف المرتبط بواقعه على أنحاء متعددة، يؤسس لأشياء كثيرة في دراسة نظريات الأدب ومذاهبه وفنونه، ومنها بطبيعة الحال فنون السرد الناهضة.

 

وقد أحسن ابنه الدكتور طارق مندور في السنوات الأخيرة، بأن كشف عن كثير من هذه الجوانب التي لم تنشر من إسهامات مندور، خصوصاً في مجال القانون والسياسة، وفي مجال النقد القصصي؛ فقد جمع كثيراً من مقالاته ومشاركاته التي كان مندور يجهزها بالفعل لكي تصدر في صورة جزء ثان من كتابه “الأدب وفنونه”، وهو جزء يختص بدارسة فنون السرد أو فن القصة، بعد أن درس في الجزء الأول فنوناً أخرى.

 

ولعل أهم ما يميز إسهامات مندور في نقد القص شيئان: الأول أن نقده أقرب ما يكون إلى ما يسمى اليوم النقد الثقافي الذي يرى النص الأدبي في إطاره الأوسع، والثاني ميله إلى النقد التطبيقي الذي يسرب المبادئ النظرية خلال تحليله لأعمال أدبية محددة، وهي سمة من سمات نقد مندور عموماً؛ فأنت تقرأ في كتابه هذا متابعات للأعمال القصصية التي سجلت صعود محفوظ وإدريس والشرقاوي وغيرهم من نجوم السرد الطالع في ذلك الزمان.

 

وخلال ذلك كله يقدم مندور وجهة نظره المتقدمة في تحليل تقنيات القص، كالوصف والسرد والحوار واللغة، فضلاً عن المضمون بطبيعة الحال.

 

وركزت ورقة صلاح السروي على دراسة نقاط ثلاث: 1. المرحلة الجمالية الإنسانية. 2. المرحلة الاجتماعية الأيديولوجية. 3. الناقد محمد مندور في ضوء اللحظة النقدية الراهنة.

 

ويؤكد العلام أنه نادرًا ما اجتمعت في ناقد أدبي، ما اجتمع في شيخ النقاد العرب محمد مندور، فقد أسهمت اهتمامات معرفية ونظرية ومنهجية كثيرة، في تكوينه الشخصي والنقدي؛ تأثيرات ثقافية وعلمية ولغوية ومقروءات واسعة، من مرجعيات أدبية وفلسفية متنوعة، فضلاً عن تجاربه في الحياة، وذكائه الخارق، كلها أهلت ناقدنا لكي يكون سابقاً لعصره، ما جعله ينخرط في جبهات نقدية ونظرية متنوعة وغير مسبوقة، قديمة وحديثة، في بحثه الدائم عن منهج نقدي، وعن علمنة الخطاب النقدي العربي، في قواعده وأصوله ونظرياته، القديمة والحديثة، وفي بحثه، أيضاً، عن مفهوم ووضعية جديدين للأدب، في أمة عرفت بإنتاجها لكم هائل من الخطابة، ورفع الصوت، ما نتج عنه أدب رديء، وتعتبر أول محاولة نقدية عربية للتفكير في الوضع الاعتباري للأدب في المجتمع، في علاقته بالخطابات الأخرى.

 

ولعلنا نحتاج اليوم لاستلهام ريادة هذا الناقد الفذ في التفكير المتجدد في مدى حاجتنا للأدب ومبرراتها، وفي ما يميز الأدب عن غيره من الخطابات الأخرى، ما دفع بناقدنا، مثله في ذلك مثل منظِّرين غربيين، إلى اعتبار أن وظيفة الأدب تختلف عن باقي الوظائف الأخرى، في وقت تعالت فيه الأصوات في أوروبا بالتفكير في وضعية الأدب وجدواه.

 

ويتوقف عمار علي حسن أمام ثورية مندور عندما يقول إنه خاض معارك نقدية، ثار فيها على كثير من البارزين ذائعي الصيت في زمنه؛ أهمها وأكثرها جرأة، معركته مع عباس محمود العقاد حول نقده النفساني، وكتاباته التي تميل إلى الجزم والإطلاقية بما يبتعد بها عن التفكير العلمي، ورفضه اعتماد الشعر الحر شعراً بدعوى افتقاده خصائص القصيدة ومنها الوزن الموسيقى.

 

كما هاجم المنهج النقدي الذي كان يتبعه إبراهيم عبدالقادر المازني، ووصفه بأنه يضيق عن استيعاب ألوان من الشعر الدرامي والوطني. ودخل في مساجلة حادة مع إحسان عبدالقدوس حين اتهمه مندور بأنه قد أخذ روايته “دعني لولدي” عن قصة “السر المحرق” للكاتب الشهير ستيفان زفايج.

 

وحين صدرت رواية يوسف السباعي “طريق العودة” سنة 1958 وكذلك مسرحيته “جمعية قتل الزوجات” لم يعبأ بما لصاحبها من هالة وسطوة في أوساط المثقفين بحكم انتمائه للضباط الأحرار وتوليه منصبًا ثقافيًا مهمًا، فهاجم ما كتب، ورد عليه السباعي، وانبرى عبدالرحمن الشرقاوي مدافعاً عن صاحب الرواية وقادحاً في مندور، واصفاً إياه بأنه يكتب عن جهل، ولا علاقة له بالنقد، فرد الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وكان أيامها في الثالثة والعشرين من عمره، بقصيدة شعرية عنوانها “دفاع عن الكلمة” وقفت إلى جانب مندور وانتصرت له.

 

ولم يعبأ مندور بغضب السباعي وكتب يرد عليه: “الأستاذ السباعي سكرتير عام المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، أي لترقيتها والسمو بها بكل السبل التي يعتبر النقد الموضوعي من أهمها، ومع هذا رأيناه يشن هذه الأيام حملة إرهاب عنيفة، لا لأنه يملك نفعاً أو ضراً، بل لأنه يعتمد في حملته على السباب”، ويختتم المقالة التي أعطاها عنوان “حق الناقد وحق الأديب” بقوله: “إني أعد القراء بأنني لن أضيع وقتي مرة أخرى في الرد على السيد يوسف السكرتير العام مكتفياً بأن أرجوه أن يتذكر دائماً تلك الحكمة القديمة التي تقول: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه”.

 

هكذا كان مندور ثائراً على نفسه وحاله، ومن أجل وطنه، وربما ثورته تلك هي التي تجعلنا اليوم نجد ما نقوله عن تمرده وهو الناقد والأستاذ الجامعي قبل أن يكون السياسي الذي صار نائباً للأمة وقتاً قصيرًا، وكاتبًا من أجلها زمنًا طويلًا.

 

وفي ورقته يحاول جمال شقرة تحليل ملامح الفكر السياسي لمحمد مندور ومواقفه السياسية تجاه ثورة 23 يوليو 1952 حيث نشر كتيبًا صغيرًا عقب نجاحها بعنوان “الديموقراطية السياسية” عبر فيه عن فكرة المشاركة السياسية والإصلاح الدستوري وحقوق الإنسان.

 

وينير أنور مغيث منجز مندور مع الترجمة إلى العربية بقوله: إلى جانب الترجمات الإبداعية مثل “مدام بوفاري” لفلوبير، كانت له ترجمات في الأدب مثل “دفاع عن الأدب”، وترجمات في الفكر السياسي مثل “الأخلاق وحقوق الإنسان”، بالإضافة إلى استلهام تجربة اليونان القديمة في الديموقراطية التي احتفى بها عصر التنوير الفرنسي، ورواد النهضة في الفكر المصري، ولهذا ترجم “المدينة الإغريقية”.

 

أما مدحت الجيار فيرى أن مندور لم يكن مجرد ناقد أدبي، بل كان أحد المنظرين الممارسين للنقد الأدبي بشقيه: التحليلي الانطباعي، والتحليلي الاجتماعي.

 

فقد جاء بعد الحرب العالمية الثانية، مع مفترق الطريق النقدي العربي، إذ كان جيل الرواد من الرومانتيكيين النفسيين والاجتماعيين قد أدوا دورهم خلال نصف قرن من حياة القرن العشرين. وكان لا بد من ظهور جيل آخر يتسلم المسئولية النقدية ويتابع الطريق، بعد أن درس في فرنسا عدة سنوات أوصته بما في فرنسا، بل أوروبا آنذاك، وهو بذلك كان يستكمل ما درسه طه حسين وهز به الواقع النقدي والإبداعي العربي من كشف الماضي، ونقد التراث ومتابعة الواقع الأدبي والنقدي في مصر.

 

لقد أعطى العقاد، وعبدالرحمن شكري، وإبراهيم عبدالقادر المازني عطاءً مهماً في التنظير للشعر والمسرح والسرد العربي في مصر وخارجها، وكانت مدرسة الديوان هي السيطرة على الساحة النقدية والأدبية حتى خرج طه حسين بكتابه: في الشعر الجاهلي، ليعيد صياغة النظر النقدي إلى التراث والواقع على السواء. وأصبحت المدرستان: السكسونية، واللاتينية تسيطران على الرؤية النقدية. وتراوحت بينهما مدارس تقليدية وشبه تقليدية تمثلت في النقاد والباحثين ذوي التوجه الإسلامي أو الانتماء العربي الرافض لما تأتي به – إلينا – الثقافة الغربية كلها سواء أكانت إنجليزية أو فرنسية.

 

ومن ثم رأينا نقاداً يدخلون في معارك مدرسة الديوان، معها مثل سيد قطب، وضدها مثل رمزي مفتاح، ولم يكن من الغريب أن تأتي هذه المعارك بعد هجوم الديوان على شوقي، وحافظ، والرافعي، والمنفلوطي، وكانت الحياة الثقافية المصرية قد شهدت هزة عنيفة بعد كتاب “الديوان في الأدب والنقد” (1921) ممثلا للنقد النابع من مدرسة “هازلت” وهي المدرسة الإنجليزية التي قيمت تراث إنجلترا الأدبي والثقافي حتى القرن التاسع عشر. (وهزة بصدور دستور 1923)، وشهدت هزة أعنف بعد صدور كتاب: “في الشعر الجاهلي” (1926)، ثم تتابعت بعض الوقائع المهمة: تنصيب أحمد شوقي أميراً للشعراء (1927). ثم قامت جماعة مجلة أبولو (1932-1934) بمجموعة من الشعراء الإحيائيين والرومانتيك الجدد، وهي الفترة التي درس فيها محمد مندور في قسم اللغة العربية وكلية الحقوق (1925-1930).

 

وهذا ما جعل فترة الثلاثينيات من القرن العشرين تشهد اشتداد المعارك الثقافية والنقدية بعد أن قلبت المدارس الجديدة الواقع الثقافي وحولته إلى عالم جديد موصول بأوروبا من ناحية، وموصول بالثقافة العربية الإسلامية من ناحية ثانية. وموصول بالواقع المباشر من ناحية ثالثة. بل جعل فترة الثلاثينيات جسراً تعبر عليه التجديدات المهمة في الثقافية والأدب والنقد على السواء.

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى