محمد مهر الدين غريبُ هذا العالم

الجسرة الثقافية الالكترونية

*فاروق يوسف

المصدر: الحياة

 

برحيل محمد مهر الدين، يكون الرسم في العراق قد خسر واحداً من أهم مبدعيه وأساتذته الكبار. فالرجل الذي كان شرساً ونافراً في حياته اليومية، كان فناناً عاصفاً ومدمراً في علاقته بالرسم. وهو ما أهله ليحتل في سن مبكرة مكاناً بارزاً في الصف الأول من الرسامين الذين أحدثوا تغييراً جوهرياً في المحترف الفني العراقي منتصف ستينات القرن العشرين. لقد أظهر مهر الدين في بداياته الأولى ميولاً لرسم المشاهد المحلية برؤية حديثة، لكنه سرعان ما انتفض على محليته بتأثير مباشر من الفنان الأميركي روبرت راوشنبرغ، ليكون الفاتح في إضفاء رؤية معاصرة على لوحته، يتسابق من خلالها الموضوع والمضمون والشكل والتقنية في مجال الاستجابة لمزاج عالمي، غلب عليه الحسّ السياسي.

ولد الفنان الذي غادرنا قبل أيام عام 1938، وأنهى دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1959 ليذهب بعدها إلى بولندا ثم إلى بغداد حاملاً شهادة الماجستير عام 1966. كانت بغداد وقتذاك تعيش حراكاً فنياً هائلاً، كأنه مخاض ولادة ما صار يعرف لاحقاً بالحداثة الفنية الثانية. وهي مرحلة تخلى فيها الفن العراقي عن الأفكار التي طرحتها جماعة بغداد للفن الحديث في الخمسينات، والتي كانت تركز على محاولة استلهام التراث في صنع لوحة حديثة. في ظل ذلك الحراك، استقبل مهر الدين إثر عودته من بولندا بطريقة منحته الكثير من الثقة، وهو ما جعله ينضم إلى ذلك الحراك كما لو أنه واحد من صانعيه، الأمر الذي مهّد له الانضمام إلى جماعة «الرؤية الجديدة» التي أسسها الفنان ضياء العزاوي لتقيم أول معارضها عام 1969. غير أن فردية مهر الدين كانت أقوى من أن تؤهله لأن يكون جزءاً من جماعة، لذلك ظل دائماً محاطاً بغربته الذي زادها سلوكه النافر توحشاً.

يشهد له طلابه أنه كان معلم رسم عظيماً، ويشهد له تاريخ الرسم في العراق أنه كان رساماً حقيقياً، استطاع أن يجمع بين الموهبة والحرفة والخيال ليكون حاذقاً في طرح أفكاره من خلال أشكال معاصرة مستعيناً بتقنيات تؤاخي بين التشخيص والتجريد بطريقة متوازنة، لا يمكن للعين الخبيرة سوى أن تستجيب لرغبة النظر إليها. كانت يد مهر الدين هي الأقوى حرفياً مقارنة بأيدي الرسامين العراقيين الآخرين، مَن سبقه منهم ومَن عاصره، وكان ذلك التمكن يخونه أحياناً، حين يُنجز لوحة متقنة من غير أن تتمكن العواطف من التسلل إليها. حدث ذلك في بدايات إقامته في عمان (الأردن) بعدما غادر العراق بعد منتصف التسعينات. ربما لأنه صُدم بغربته، بعد أن كان قد أشبع ذلك الموضوع بحثاً وتأويلاً واعتراضاً في معرضه «غريب هذا العالم»، الذي أقامه عام 1979، وكان واحدة من اللحظات الانعطافية في تاريخ الفن التشكيلي في العراق. كان مهر الدين يومها قد وصل إلى ذروة عطائه.

مارس مهر الدين سحر تأثيره في أجيال من الرسامين كما لم يفعل أيّ رسام عراقي آخر، إلى أن نافسه في وقت لاحق الرسام الراحل شاكر حسن آل سعيد. كانت تجربة مهر الدين في الرسم بالنسبة إلى شباب الرسامين أشبه بالبوصلة التي قادتهم بعد ذلك إلى التعرف على أساليب الرسم المعاصر ومدارسه.

ولأنّ مهر الدين كان مباشراً في طرح مشكلات العصر السياسية، بطريقة تقترب أحياناً من التسجيلية، من غير أن تفقد قدرتها على الإبهار الجمالي ظلّ في عيون أولئك الشباب أشبه بالرائي الذي يطلّع على الوقائع قبل وقوعها. وكانت رسومه مقياساً لحقيقة الرسم. وإذا كان الراحل قد سقط في مرحلة متأخرة من حياته في فخ تكرار «هذياناته» البصرية، فإن كل قطعة من قطعه الفنية كانت أشبه بدرس متجدد في الرسم.

كانت يد مهر الدين مستنفرة في خدمة الرسم وكان خيالها يستدرج السياسة إلى الفن في لعبة لهو تصويري. ولأنه كان متمكناً من لهوه، سيكون من الصعب التفكير بمَن يرثه من مقلديه. وداعاً مهر الدين، أقولها وأنا أعرف أني أودع لحظة جمال لن تتكرر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى