محمد وفيق.. في معنى الأداء التمثيلي وحماسته

الجسرة الثقافية الالكترونية
*نديم جرجورة
المصدر: السفير
مسلسلان اثنان كفيلان بجعله صورة تلفزيونية معروفة لدى كثيرين. لكن السينما اتّخذته وجهاً من وجوهها في أفلام يذهب صانعوها إلى «نجوم» الصفّ الأول، مع أن غالبية ممثلي الأدوار الثانية والثالثة في السينما المصريَّة تحديداً «تفوّقوا» مراراً على أولئك المتربّعين على «عرش النجومية». الأدوار المُساعِدة، كما تُسمَّى، تتقدّم أحياناً على الأدوار الأساسية، إذ يُبدع مؤدّوها في تلبية متطلّبات شخصياتها بما يتجاوز براعة اللاعبين الأساسيين في التمثيل. الأدوار الـ «تابعة» لـ «نجوم» الصفّ الأول لم تكن مجرّد وظيفة، لأنها ـ بالنسبة إلى البعض ـ حيّزاً لإشهار براعة الأداء كـ «سنِّيد» لا يُتَخَلّى عنه أبداً.
محمد وفيق (24 أيلول 1947 ـ 14 آذار 2015) أحد هؤلاء البارعين في ممارسة أفضل طقوس التمثيل في الأدوار اللاحقة لـ «نجومية» الصف الأول. برحيله قبل يومين عن 68 عاماً، يُعاد طرح سؤال «تأدية الأدوار الثانية» في السينما والتلفزيون. بهذا، يُمكن استعادة دورين تلفزيونيين بارزين في مسيرته التمثيلية: ضابط المخابرات المصرية عزيز الجبالي في «رأفت الهجّان» (تأليف: صالح مرسي، إخراج: يحيى العلمي، 3 أجزاء بدءاً من العام 1987)، ومصطفى رفعت في «ليالي الحلمية» (تأليف: أسامة أنور عكاشة، إخراج: إسماعيل عبد الحافظ، 5 أجزاء بين العامين 1987 و1995). في الشخصيّة الأولى، يتحوّل الضابط بفضله إلى إنسان يثير حماسة التعاطف والتواصل مع من يقود عملية تجنيد أحد أهمّ الجواسيس المصريين في إسرائيل، الذي يلعب دوراً بارزاً في «حرب أكتوبر» (المندلعة في 6 تشرين الأول 1973). في الشخصية الثانية، يواكب المُشاهد تحوّلات بيئة وعائلات وعلاقات ومراحل عبر أناس عديدين، بينما يقف محمد وفيق في الحدّ الفاصل بين ذاكرة حرب وراهن سلم، وبين صداقة حيّة وزواج يُراد له أن يكون امتداداً لصداقة يُفترض بها ألاّ تنتهي أمام انهيار كلّ شيء.
لا يُمكن لأي نصّ مكتوب في رحيل محمد وفيق ألاّ يسترسل في التعليق على هذين الدورين، وبالتالي على هذين المسلسلين. «ليالي الحلمية» يبقى الأعمق والأقدر على امتلاك براعة الكتابة الدراميّة، المازجة سرداً تاريخيّاً لمصر منذ الملَكيّة إلى عصر الانفتاح، بينما «رأفت الهجّان» يحاول تحصين نفسه من السقوط في حماسة الفعل الوطني الانفعالي، أثناء سرده فصلاً من «أجمل» فصول الصراع العربي ـ الإسرائيلي. مصطفى رفعت أحد الشهود الأساسيين على تحوّل وارتباكات وتحطيم أحلام وصناعة خيبات، وعزيز الجبالي أحد الشهود الأساسيين أيضاً، لكن على كيفيّة صناعة لحظة انتصار فعليّ على عدوّ، قبل أن يتحوّل العدو ـ للأسف ـ إلى سلطة أقوى من أن يحجبها عملٌ بطولي لجاسوس يخترق الكيان الإسرائيلي كي يُفكّكه بالاستيلاء على أشياء عديدة من «أسراره». في الشخصيتين، يبدو محمد وفيق أنيقاً في استدراج تعاطف ممزوج بإثارة متعة المُشاهدة، وجميلاً في إزالة كلّ فارق ممكن بين تمثيل وحقيقة.
يرتبط الحضور السينمائي لمحمد وفيق بشخصية عمرو بن العاص في «الرسالة» (1977) للسوري الأميركي مصطفى العقّاد. فعلى الرغم من مشاركته الفعّالة في أفلام مثيرة للسجال الفني والاجتماعي والثقافي، كـ «الهروب» (1991) لعاطف الطيّب، و»امرأة آيلة للسقوط» (1992) لمدحت السباعي، المتعاون معه لاحقاً في «مجرم مع مرتبة الشرف» (1998) مثلاً، إلاّ أن تأديته عمرو بن العاص تبقى الأرقى في معاينة لحظة تاريخية تصنع أحد الفصول الأساسية في التاريخ البشريّ. في حين أن تقنية تمثيله دوراً كهذا تظلّ مرجعاً لتأمّل هادئ في كيفية محو الحدّ الفاصل بين الشخصية وممثّلها، مع أن الشخصية موغلة في التاريخ القديم، ومع أن الممثل متيقّن من أن التمثيل لا يُمكنه أن يكون تقليداً، تماماً كتأديته شخصية حاكم مصر الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879) في «بوابة الحلواني» (تأليف محفوظ عبد الرحمن، إخراج إبراهيم الصحن، 3 أجزاء معروضة في تسعينيات القرن المنصرم). فتقديم شخصية تاريخية محتاجة إلى وعي معرفي يُفترض به ألا يكون أسير شكل الشخصية المُراد تقديمها تمثيلاً على إحدى الشاشتين، بقدر ما يُتوقّع من مؤدّيها أن يذهب بها إلى ما هو أبعد من ذلك: أن يتماهى بها قدر المستطاع، بالسعي إلى بلوغ مرتبة متقدّمة جداً من آلية سلوكها، وفضاء زمنها، وحيّز جغرافيّتها.
محمد وفيق، بتنويعه الأدوار والعناوين وأزمنة الأحداث المناط به تأدية جزء منها تلفزيونياً وسينمائياً، لا يتردّد عن اختبار أداء شخصيات متناقضة، تستدعي تناقضاً في كيفية التمثيل وآلياته المختلفة. وهو، بهذا، قادرٌ على تحويل حماسة الأداء إلى تمثيل يرتقي معه إلى انمحاء الذات في أعماق الشخصية المختارة، من دون أن يتنازل عن كونه ممثلاً يمتلك مفردات الأداء وطقوسه، ويتحكّم بها لإنجاح حضور الشخصية في مُشاهديها.