محمود شقير حكواتي العائلة الفلسطينية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مودي البيطار
المصدر: الحياة
يبدو محمود شقير في روايته الأخيرة كأنه يتحرّر من تاريخه ليكتب عملاً حكواتياً، ذا نفس طويل متصل، يصبّ رواية الأجيال صبّاً. يغيب الترميز والتكثيف والتقطيع والطراوة الشعرية لتتراكم المعلومات الحكائية في «مديح لنساء العائلة» الصادرة عن دار نوفل- هاشيت، بيروت، من دون تصاعد درامي، أو بناء علاقة مع القارئ. ومع استعارة الشكل من حقبة بائدة تتجه الرواية نحو الفولكلور وسط الذكر المكرر لـ «تغريبة بني هلال». سرد أفقي بلا انتقاء أو غائية فنيّين، وتدوين شبه مضبوط لسيرة عائلة ممتدّة يصل النقاط والمحطات، مجرّدة من مخزونها العاطفي، في بحث عن ألفة، انتماء أو معنى ما، أو تأكيد للانفصال ونهاية مرحلة. باعتماده صوتَي الابنين، البار والعاق، وقطع رسائل الابن المهاجر لتيّارهما، يدلّ شقير على الاختلاف والبعد في العائلة قبل الاعتراف بهما. ويبلغ القطع الزمني والعائلي ذروته بإدراك محمد الأصغر، الذي أنيطت به وراثة الزعامة ولمّ العشيرة، أنه ينقض ولا يكمل، بفعل فردي لا إرادي وآخر اجتماعي هو ظهور أنساق جديدة للاجتماع.
يخضع منّان العبد اللات لانتقال السلطة من العشائر إلى المقاومة، وارتقاء الانتماء من القبيلة إلى الوطن، وتعيش عائلته التطوّر من الحقبة الزراعية إلى تلك العمالية الأيديولوجية مع انتشار الأحزاب وظهور المقاومة الفلسطينية. يتكرّر اسم محمد ( الكبير، الصغير والأصغر) في أسرة منّان الذي تزوج ستّ نساء توفّيت اثنتان منهن، ويتوقّع من عطوان المهاجر تسمية ابنه الثاني من زوجته البرازيلية باسمه كما دعا ابنه الأول من زوجته الفلسطينية فهيمة. يغيّب تكرار الأسماء نفسها الفردية، ويوظّف الفرد وريثاً لشخص ودور في دورة جاهزة. يُستثمر الحكي الشهرزادي في تثبيت تقليد استهلّته صبحا، والدة منّان، وعلينا أن نصدّق أنها كلّفت صغرى كنائنها، وضحا، مواصلة سرد الحكايات وهي تُحتضر. يتفّق هذا الطقس مع العيش المختلط لوضحا بين الإنس والجان، وامتناعها عن الاستسلام حين يظهر التلفزيون ويتحوّل اهتمام العائلة إلى المسلسلات، وتكيّفها بتعديل قصصها لتحتفظ بدورها وجمهورها وسلطتها. راوي «مديح لنساء العائلة» يسردها بالطريقة الشهرزادية نفسها، الواعية لوظيفتها، المخلصة للبداية والنهاية، والحاملة رسالة تتغيّر من حياة إلى أخرى.
يذكّر العنوان بديوان «ماء لحصان العائلة» للشاعر اللبناني شوقي أبو شقرا، ويستهدف المديح كل النساء بمن فيهن الكتلة الثرثارة، الحسودة، الهدّامة التي يبرّر محمد الأصغر نشاط ألسنتها الخارق، العابر للقارّات، بالفراغ والبؤس. تربط هؤلاء بين العهر والحذاء ذي الكعب العالي، رفع طرف الفستان، السهر خارجاً مع الزوج والهوية الأجنبية. يخالط الغيب العهر أحياناً في استهداف النساء القويات، المستقلّات، المتمتعات بحب أزواجهن، ولا تشك كتلة النساء الثرثارة في الترابط بين عري الساقين والذراعين والشيطان (رسميّة) أو تحرّر الأجنبيّات والنوم معه (جيزيل). تحمي سائر النساء أنفسهن من الثرثرة بالعلاقة الطيّبة مع الزوج، العمل والاستقلال المادي والنأي. ولئن غاب صوت النساء مباشرة، ظهر محمد الأصغر، الكاتب في المحكمة الشرعية، نصيراً قوياً يرفض تعدّد الزوجات، ويقتنع أنه لا يمكن تحرير البلاد ما دمنا نظلم النساء. وإن الرواية روايتهن أساساً. علاقاتهن، همومهن، إرادتهن، قهرهن وفرصهن الثانية. ترفض نوال، ابنة نجمة التي تنظّف بيت مصرفي، الزواج بأدهم النادل لتعمل مدرّسة في المدينة وتتزوج طبيب أسنان. تنفر سناء من النوم مع زوج يكبرها بخمس عشرة سنة لأن مزاجها غير مؤاتٍ، وتصرّ على الطلاق منه لتتزوج محمد الأصغر الذي تكبره بثلاثة أعوام. العمة معزوزة تتزوج في الثانية والأربعين جندياً في الثلاثين تعيد رائحته الروح إليها، وفق الثرثارات أنفسهن. وضحا، التي تصغر أولى زوجات منّان بعشرين عاماً، تمتنّ له لامتناعه عن الزواج بعدها. لكن عطوان يترك فهيمة وطفله منها إلى البرازيل ليتزوج وينجب، وتنتهي الرواية بعد ثلاثة وعشرين عاماً من هجرته التي خلت من دون أن يزور أسرته الأولى مرة واحدة.
تبدأ الرواية بإلغاء محمد وسناء رحلة إلى بيروت المحاصرة في 1982 للاحتفال بذكرى زواجهما العشرين. يعوّضان بالسفر إلى إسبانيا، ويروق لسناء البوح أنها سبحت بلباس البحر لتزيد غمّ الثرثارات. كانت بلغت اليقين في علاقتها بمحمد الأصغر الذي شجّعه أهله على الزواج ثانية بعد التأكّد من عقمها. فضّلت الطلاق على جمعها بزوجة أخرى، واتّهمتها الثرثارات بتشجيعه على الاستقالة من العمل في المحكمة لتبقيه تحت رحمتها. أضفت البذلة وهم المكانة عليه، لكن محمد الأصغر بات أصغر بعد أن عمل الفلسطينيون في المؤسّسات الإسرائيلية، ونالوا رواتب تفوق راتبه. بعد الكثير من الحياة في المحكمة الشرعية يتّجه إلى تمثيل الحياة، فيعمل مع فرقة مسرحية، ويحاول نقل ما شهده كتابةً لكنه يكتشف أنه ليس موهوباً فيجمعه العقم بزوجته. دعته والدته «جَمَل العائلة» وأرادته كبيرها، لكنه أدرك أن الزعامة باتت بائدة. حتى والده، أبو الشهيدين ومختار العشيرة السابق الذي شارك في ثورة 1936، سكت حين أطلق سرحان النار على ابنه فليحان وشلّه. خطف هذا رسميّة المخطوبة إلى ابن عمّها سرحان، فصبر عقدين إلى أن تغيّر ميزان القوى، وسمح له الانضمام إلى المقاومة بـ «الثأر للشرف الممرّغ في التراب».
فليحان المحبّ لمتع الدنيا بكل الوسائل هو الصورة المضادة لمحمد الأصغر، وإن أحبّ أخاه ومدح دماثته.
تلصّص على البنات منذ صغره، وحاول الاعتداء على راعية صغيرة. يغريه سروال رسمية الطويل بالنوم معها، ويفعل قبل الزواج منها. تعيّرها زوجته الأولى شيخة، فيعجب من معرفتها لأنه «حرص على إبقاء الكلام في أضيق نطاق». جمع ثروة من بيع المخدرات وتهريب البضائع إلى إسرائيل، واستغلّ أبناء الأسرة والعشيرة في محلاته التجارية. هجس بالزعامة، وأحبّ رسمية التي لا تزال تبهجه وهي في الخمسين.
خطابه الجنسي الصريح يدفعه إلى البوح بقدرته على إمتاعها رغم شلله. عمّته معزوزة أيضاً فتنت زوجها صايل الأصغر منها بأكثر من عقد، إذ تغزّل بجسدها وعرفت العائلة كلها أنه ركع أمامها حين نشرت شعرها الطويل على جسدها العاري. تأتي الرغبة بامرأة على حساب أخرى غالباً لانتشار تعدّد الزوجات. وضحا تصمت حين تكتشف أن منّان كان يغافلها ويزور زوجاته الثلاث الأخريات، وشقيقه عبدالجبّار تذرّع بالجان الذين حملوه ليلاً من فراش مهيرة إلى سرير خديجة ثم أعادوه من دون أن يشعر بشيء! وتواكب أولوية الزوجة الثانية أحياناً فرص أفضل لأولادها. لا يجد عطوان مانعاً من الفرح بابنه منّان الذي يعمل سائق أجرة، وإخبار العائلة في الرسالة نفسها أن ابنه الثاني البرازيلي سيدرس الهندسة في الجامعة.