محمود شقير والبدوي الفلسطيني التائه في (فرس العائلة) / د. غسان إسماعيل عبد الخالق ( الأردن )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
(1)
محمود شقير –لمن لا يعلم- كاتب فلسطيني جاء من كوكب آخر كل ما فيه كبير؛ الإنسان والفكر والنضال والنص! عُرف بوصفه قاصًا رائدًا للأطفال، وتميز بوصفه قاصًا ملهمًا للكبار. احترف كتابة المقالة اللاذعة، وبرع في كتابة السيناريوهات التلفزيونية الملتزمة، كما لم يبخل على المسرح أيضًا بإبداعه. وفضلاً عن كل ما يتصف به من مناقب ثقافية ونضالية وأخلاقية رفيعة، يندر أن تجتمع في شخص واحد، فقد اتخذ من القدس هوية حاسمة وعلامة فارقة ووسيلة وغاية في آن واحد، إلى الحد الذي يمكننا أن نلحقه معه بكبار المقدسيين الذين أرّخت لهم كتب السير والأعلام.
ليس غريبًا -وهذا بعض حال محمود شقير- أن يتصدّى لتوثيق ملمح شارد من ملامح مدينته الخالدة… القدس، متخذًا من أدب الرواية الطويلة بابًا واسعًا لهذا التوثيق الرفيع، ومستعينًا على ذلك بسنوات عمره التي نافت على السبعين، وخبراته الكتابية المتعدّدة، وقراءاته التاريخية الواسعة.
(2)
ما أكثر الذين لا يعرفون الآن، حقيقة أن القدس ما كانت لتظل عربيّة، لولا الاستراتيجية الفذّة التي اتبعها صلاح الدين الأيوبي بعد نجاحه المؤزّر في تحريرها من أيدي الفرنجة الغاصبين؛ لقد حرص على استجلاب العديد من القبائل البدوية العربية وإسكانها على تخوم القدس من جهة، كما حرص على تشجيع السياحة الدينية وابتكار العديد من المواسم الصوفية الشعبية من جهة ثانية، للحيلولة دون احتلال القدس مرة أخرى. وقد آتت هذه الاستراتيجية أكلها بسرعة فائقة، إذ سرعان ما استعادت القدس رونقها العربي الإسلامي وصارت تعج بسكانها العرب من جديد، فضلاً عن مئات الآلاف من الحجاج وطلاب العلم والرحالة والتجار الوافدين إليها سنويًا من كل فجّ عميق. لقد كانت سرّة العالم وعادت سرّة العالم، التي احتضنت وما زالت تحتضن، ما لا يعد ولا يحصى من المآثر والحكايات والسير والملاحم.
(3)
بدءًا من السنوات التي فصلت بين وجودين: الوجود العثماني التركي والوجود البريطاني الاستعماري، يشرع محمود شقير في تتبع خيوط ملحمة بدوية فلسطينية كانت تستلقي على تخوم القدس، وصولاً إلى اندفاعها للاندماج ديمغرافيًا وحضاريًا مع المجتمع المقدسي وانخراطها التام في الهم الوطني الفلسطيني. لقد نجح محمود شقير في التقاط الإيقاع الداخلي المطلوب الذي ينبغي أن يستبطن سرده الروائي المعلن؛ ذلك الإيقاع الذي ينبغي أن يتطابق مع سيكولوجية البدوي وآليات تفكيره والمجال الحيوي لأحلامه، فأبرز ولعه بالمرأة والفضاء الصحراوي والفحولة القاتلة، كما أبرز ولع البدوية بالحب والحكايات والإخصاب الدائم. ولم يدّخر وسعًا لنثر هذا الولع عبر عشرات اللوحات الكرنفالية الطافحة بكل تلك الشعرية الغنائية التي تليق بالبدوي أو البدوية، عشقًا وفروسية وصراعًا وآمالاً.
ولم يفت محمود شقير، طبعًا، أن يؤثث هذه الشعرية الغنائية الروائية، بعشرات التفاصيل المجلوبة من عمق الانثروبولوجيا البدوية، سواء على صعيد العادات الاجتماعية أو على صعيد المعتقدات الدينية أو على صعيد التوجهات السياسية أو على صعيد المنظومة الثقافية، وحتى على صعيد استحضار منطوقها الشفوي في تضاعيف سرد السارد أو في تضاعيف الحوار.
(4)
إنّ رواية (فرس العائلة) تمثل أيضًا، اختبارًا نموذجيًا للقارئ قصير النفس؛ فعلى امتداد (310) صفحات من القطع الكبير، يمضي بنا محمود شقير في سرد منتظم كانتظام وقع حوافر حصان وحيد على أديم الصحراء في ليلة مقمرة! وبلغة تتدفق دائمًا باتجاه تكثيف الدلالة النفسية أو التاريخية أو السياسية أو الفلسفية أو الفنية. يمضي بنا لإبراز ذلك العسف الذي سامه الأتراك للقبائل البدوية، وتلك المراوغة التي راهن عليها الانتداب البريطاني لتوظيف ظروف البداوة في سبيل المشروع الاستعماري الصهيوني. وفي القلب من كل هذه الملحمة يتبدى لنا (الشيخ منّان) بوصفه واسطة العقد بين أجيال من رجالات البدو الأسطوريين وأجيال من البدو الذين يأكلون ويشربون ويسيرون في الأسواق بحثًا عن لقمة العيش كغيرهم من الفلاّحين وسكان المدن. ومن الملاحظ أن محمود شقير قد أبدع، في استحضار ملامح (الشيخ منّان) بواقعية لافتة، تلخص ذلك الشموخ في الشخصية البدوية أو العربية أو الإنسانية من جهة، وذلك الضعف الذي يستوطن النفس البشرية من جهة ثانية؛ فأبرزه شجاعًا قويًا فارسًا، وتغنّى به عاشقًا عربيدًا لاهيًا، ولم يتستر على أنانيته أو تخاذله أحيانًا.
(5)
أزعم أن (فرس العائلة) لمحمود شقير، تمثل إضافة إبداعية وموضوعية، على قدر كبير من الأهمية، كونها تحاول إعادة الاعتبار للشخصية البدوية العربية عمومًا، التي تضافر على تشويهها: الأدب الاستشراقي من جهة، والخطاب السياسي اليساري العربي من جهة ثانية، ولم ينصفها الأدب الروائي العربي أيضًا من جهة ثالثة، فظلت قرين الغدر والخيانة والجشع والانتهازية. ولأنها –رواية فرس العائلة- تتصدى بوجه خاص لإعادة الاعتبار للشخصية البدوية الفلسطينية، وإلحاقها بالسياق العام للنضال الوطني الذي خاضه الشعب الفلسطيني وما زال يخوضه. مع ضرورة التنويه بالأهمية الاستثنائية لتلك الخطفات السردية المذهلة التي رمى محمود شقير من خلالها لإبراز التأثير المضاعف الذي أحدثته مستجدات العصر الأوروبي الحديث في وجدان الإنسان العربي المعاصر… فما بالك بالبدوي؟! بدءًا من موقد الكاز مرورًا بالمصباح الغازي وليس انتهاء بالمذياع. وأما بخصوص تغلغل محمود شقير في ثنايا الحرملك البدوي؛ بدءًا من السراويل الداخلية مرورًا بالمكائد العاطفية وليس انتهاء بكون البدوية حارسة الفجائع ومستودع الحكايا والأسرار، فإن الناقد لا يملك إلا أن يوجه دعوة حارة لكل معارفه من السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين، كي يبروا أقلامهم ويشرعوا في تدوين ذاكرة جديدة للبدوية شهرزاد!
(6)
تستلهم الرواية مأساة تغريبة بني هلال التي تحكي ما واجهوه من صعاب وما خاضوه من حروب في طريق عودتهم من المغرب الأقصى –وفي رواية أخرى من الأندلس- إلى مصر، حيث تعرّضوا لما يمكن تسميته (تصفيات حساب) مع كل خصومهم الذين سبق لهم أن تسببوا بتشريدهم وتدمير ديارهم. ومع أنّ السارد لا يأتي على ذكر هذه التغريبة صراحة، إلاّ من خلال بعض الإشارات الخاطفة لعازف الربابة المولع بالسيرة الهلالية طبعًا، إلاّ أنّ الإطار العام للحكاية، والذي يمكن تلخيصه في تزايد رغبة زعيم قبيلة العبد اللات في الارتحال بقومه من عمق الصحراء إلى تخوم القدس خلال أعوام الحرب العالمية الأولى، يعزّز لدينا هذا الاستلهام غير المباشر. ومن المؤسف أن تتجه أنظار بعض النقاد الذين قرأوا الرواية إلى المقارنة بينها وبين (مائة عام من العزلة) لجابرييل ماركيز، بدلاً من قراءتها في ضوء تغريبة بني هلال، وهي المرجعية الثقافية الأوثق والأعمق. والحق أن ما تعرّضت له قبيلة العبد اللات من صعوبات وما واجهته من عقبات في طريق ارتحالها لمتاخمة مدينة القدس يزيد من قناعتنا بوجود هذا الاستلهام لتغريبة بني هلال.
تتبدى لنا الصحراء بوصفها مكانًا فوضويًا في رواية (فرس العائلة)، لأننا نتخيلها تجريدًا، ولا نراها تحديدًا؛ فالأفق الممتد ولهيب الشمس يحدها نهارًا، والسماء الممتدة وضوء القمر يحدها ليلاً. وحتى بيوت شعرها متناثرة متباعدة لأسباب تتعلق بحرص البدوي على التفرد والخصوصية. كما تتبدى لنا حقبة الحرب العالمية الأولى، بوصفها زمنًا فوضويًا أيضًا، فهي مزيج من الهيمنة العثمانية والاحتلال البريطاني والتغلغل الصهيوني إلى فلسطين. هذا فضلاً عما يمارسه تيار لاوعي الشيخ منَّان –الشخصية الرئيسة في الرواية- من ارتحال دائم من الحاضر للماضي ومن الماضي للحاضر ومن الحاضر للمستقبل.
إن ما تقدم يدفعنا إلى القول بأن أخطر ما يمكن أن نختم به هذه القراءة الوامضة في رواية (فرس العائلة)، ضرورة التنويه بكونها مختبرًا نموذجيًا لنظرية الفوضى (Chaos theory) في الأدب! فخلف بنائها المتئد المحكم ثمة العديد من الأعاصير التي أحدثتها –في الواقع- رفّة لا تكاد ترى لجناحي فراشة هنا أو هناك، وفي عمق فوضاها الظاهرة ثمة العديد من الأنساق والنُّظُم والتراكيب والأشكال التي يتراتب كل منها على نحو محدّد ومدهش! ويمكننا الزعم مثلاً بأن العبارة التي ألقى بها القائد العثماني المتغطرس على مسامع والد منّان ومعناها (أنتم البدو لا تساوون شيئًا) قد مثّلت رفّة جناحي الفراشة الأولى التي ما فتئت تتداعى وتتعاظم حتى أدّت إلى ذلك الموقف الحاسم من الخلافة العثمانية وإدارة الظهر لها تمامًا في الحرب العالمية الأولى، رغم كل ما يجمع بين الأعراب والأتراك من أواصر الدين والتاريخ. كما يمكننا الزّعم أيضًا بأن موافقة الشيخ منّان على التحاق بعض شباب العشيرة بحرس الحدود البريطاني، لمنع المهرّبين الفلسطينيين من التسلل إلى الأردن أو لمنع المهرّبين الأردنيين من التسلّل إلى فلسطين، قد مثّل رفّة جناحي الفراشة الأولى التي أوصلت غير قليل من شباب القبيلة إلى التستر على تهريب السلاح من شرفاء الأردن إلى مناضلي فلسطين، بل لقد أدّت بهؤلاء الشباب إلى الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية المسلحة للوجود الاستعماري البريطاني والصهيوني، وإلى الحد الذي أدّى بالشيخ منّان نفسه إلى التضحية بابنين له واحتمال الإهانة والاعتقال في غياهب السجون البريطانية. ولماذا نبتعد في انتحال البراهين للتدليل على هذا الذي نزعمه، والرواية كلّها ما كانت لتكون لولا ذلك الدافع الغامض الذي كان يدفع الشيخ منّان إلى إقناع عشيرته بمغادرة الصحراء والارتحال إلى تخوم القدس، والذي تعزّز بعد قيامه وزوجته بزيارة القدس الشريف والتجوّل في شوارعها والتسوّق من دكاكينها؟ يا له من دافع ذاتي غامض سرعان ما تحول إلى ولع شخصي، ثم إلى قناعة فحركة جماعية، لخصت تلك المسافة التراجيدية بين رفّة جناحي الفراشة الأولى وانفجار الإعصار! وإن كان لنا أن نمعن في استنطاق (فرس العائلة) من منظور نقدي ما بعد حداثي، فيمكننا الزعم أخيرًا بأن فرس العشيرة التي تحوّلت إلى أسطورة، تمثل في هذه الرواية، ووفقًا لنظرية الفوضى في الأدب، الجاذب الغريب (Strange attractor) الذي يمثّل اختفاؤه أو ظهوره مجازًا، بداية أو نهاية لحدث أو حكاية أو إنسان، في هذا التاريخ المثير والمفجع لعشيرة الشيخ منّان.