محيي الدين اللباد فى ذكراه الخامسة: فانتازيا الهدم

الجسرة الثقافية الالكترونية
محمد شعير
ظل محيي الدين اللباد ينتظر موعد صدور العدد الأول من مجلة «سندباد». قرأ في جريدة الأهرام إعلانا متقشفا عن قرب صدورها خلال أيام. بعد أيام، عندما أمسك بيده عددها الأول، اعتبر المجلة رسالة شخصية تلقاها من محرر المجلة الفنان الراحل بيكار. أدرك منذ ذلك الوقت أنه منذور للفن. الفن لا شيء آخر، وجعلته المجلة يكتشف رسالته: «الفن المبهج لأنه متسق ومقنع وحقيقي». وهكذا ومنذ طفولته سار اللباد على درب هذه الكلمات الثلاث فى تعريفه للفن أن يكون متسقا ومقنعا وحقيقيا».. ثلاث كلمات تصلح لكى نصف بها تجربته الثرية والغنية.
ربما كان أكثر ما ميز اللباد – الذي تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة على رحيله تلك الثقافة المتسعة، المنفتحة على تجارب عديدة ومغامرات، لم يكن فقط مجرد صانع صحف وكاتب كبير أو فنان للغرافيك، بل كان مثقفا كبيرا، اهتم في فنه بأسئلة جريئة: أسئلة الهوية والفن الشعبي، ومحاولة تحرير الفن العربي من التأثيرات الغربية باعتبار أننا نملك في تراثنا وثقافتنا الكثير مما يستحق أن نستفيد منه فنيا لنصل إلى «فهم ذواتنا وبالتالي طريقنا الخاص». وهكذا عمل اللباد على نقد الخطاب البصري المرتبك. ثقافته تتجلى أكثر في كتبه الهامة، لا غنى عنها لأي ممن يريدون فهم أسرار الفن التشكيلي المصري والعالمى، لم تكن مجرد كتب بل «متعة لتثقيف العين، ورفض القبح.
لكن من هو اللباد؟ هل هو صانع كتب؟ أم رسام كاريكاتور؟ أم مؤلف كتب للأطفال؟ أم مصمّم غرافيك؟ كان يرفض أن يسجن في خانة واحدة، معتبراً أن تلك المجالات يكمّل بعضها البعض الآخر. براعته في الفن توازي براعته في الكتابة، وقلّما يحدث ذلك مع فنانين ورسامي كاريكاتور؛ حتى ان ناقداً مثل علي الراعي وصفه بأنّه «رب الريشة والقلم». كان مشروع اللباد الأساسي في كلّ ما كتب ورسم وصمّم «تربية الذوق» أو «تثقيف العين». وهذا ما عكسه في مشروعه الكبير «نظر»، وهي كلمة أخذها من قصيدة لبشارة الخوري، غنّاها محمد عبد الوهاب: «إن عشقنا فعذرنا أنّ في وجهنا نظر».
حتى عندما كان يشعر أنه يحرث في أرض بور، لم يفقد اللباد الأمل، اتجه بالكتابة إلى الأطفال باعتبارهم الجيل القادم. فـ «معظم الرسائل البصرية المحلية تفتقر أساساً إلى المعنى، بما يحوّلها في الأغلب إلى رسائل مفككة غير مترابطة»، كما كان يقول. «الطفل الذي يتلقى علامات الاتصال السائدة الآن، يجعلني أفكر كثيراً في كيفية بنائه لذاكرته البصرية، وما لها عليه من تأثير سلبي في مراحل متقدمة من عمره». من هنا، كان اهتمامه بتقديم كتب غير قصصية للأطفال «حكايات بالكلمة والصورة والرسم». قدّم اكتشافات رسّام وصانع كتب عجوز لقرّائه الصغار، على اعتبار أنّهم قد يقومون برحلته نفسها في الحياة. وعن القضية الفلسطينية أنجز «30 سؤالاً»، وفي «لغة من دون كلمات»، تتبّع العلامات والإشارات المرسومة على الورق والحيطان. أما في «نظر» التي صدرت في أربعة أجزاء، جمع أعمالاً ونشاطات تتوجه إلى العين تحديداً. اهتم بلغة البصر التي أصبحت «اللغة الإنسانية العالمية التي يمكن أن يتواصل بها الناس على اختلاف لغاتهم الشفاهية والمكتوبة، وهذه اللغة تحتاج إليها البلاد التي تنتشر فيها الأمية مثل بلادنا». هذا ما كتبه في مقدمة «نظر».
المفارقة
يتجلى هاجسه هذا أيضاً في رسومه الكاريكاتوريّة: هي رسوم ضربات قاسية تخلو في معظمها من التعليق، تعتمد على إدراك المفارقة عبر النظر من دون حاجة إلى الكلام. وإذا اضطر إلى أن يكتب شيئاً، يبدو تعليقه خاطفاً، لا يقصد أن يسمعه أحد. لا يمكن أن ننسى مثلاً يوم قدّم رؤية جديدة للجنيه المصري، إذ رسم أربعة مواطنين واقفين أمام المسجد الموجود في صورة الجنيه… الأول يقول: «حسنة صغيرة تمنع بلاوي كبيرة»، ويتبعه الثاني قائلاً: «عشانا عليك يا رب»، وتتوالى التعليقات: «الكريم لا يضام، يجعل بيت المحسنين عمار»… دائماً الجملة المكثفة، حاملة المعاني، تلك التي تجبرك على الضحك من دون افتعال.
كاريكاتورات اللباد أقرب ما تكون، حسب علي الراعي، إلى نظرة برنارد شو إلى فن الكوميديا: «نميل إلى تصوير الحماقة والحمقى، ونسعى إلى عرض نوادرهم على الأنظار في مختلف أشكال التعبير: الرسم، والمسرح، والحكاية والكرتون. ويلاحظ أننا بهذا الاهتمام نرفع عن أنفسنا الاتهام بأننا قد نكون بدورنا حمقى، لكنّنا لا نريد أن نعترف بهذا (…) الواقع أننا كلنا حمقى ولا مجال للتفضيل بيننا وبين غيرنا في هذا المجال».
ما فعله اللباد في الكاريكاتور فعله أيضاً في مجال تصميم أغلفة الكتب. قبله، كان الناشرون يهتمون بمحتوى الكتاب، وكانت التصميمات الداخلية والغلاف يأتيان في المرتبة الثانية. عندما خاض اللباد مجال تصميم الكتب، قلب الموازين، من خلال صناعة أغلفة كتب يمكن اعتبارها نصاً بصرياً موازياً للنص المكتوب. لكنه نصّ مكثّف ومُوحٍ، يمهّد للكتاب، ولا يفضح سره أو يكشف شفرته. يلتقط من النص مفردات تبدو عابرة، لكنها هي النص نفسه، ولعلّ بين الأمثلة الأكثر تعبيراً عن ذلك زجاجة الكوكا كولا على غلاف رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم.
شُغل اللباد بسؤال الهوية في مجمل أعماله، بموازاة اقتناعاته السياسيّة وخياراته الفكريّة. اشتغل على الجماليات المنسية في الفنون العربية: اختار الخط العربي نموذجاً للجمال، وضع شخصية علاء الدين في مقابل شخصيات المانغا اليابانيّة، مثل مازينجر، وتنبّه إلى الرسوم الشعبية البدائية على جدران البيوت الطينية في الريف، وإلى أبطالنا المنسيين مثل الظاهر بيبرس، وإلى مفردات البيئة العربية. من كتبه الجميلة، واحد يحمل عنوان «تي شيرت»، يتأمل فيه الرسوم المطبوعة على القمصان القطنية التي يرتديها الشبان، وكلها رسوم أجنبية. هنا يقدم اقتراحات لكي «يصبح تاريخنا على صدورنا» بدلاً من التقليد الأعمى ومن دون ابتذال. وهكذا كان يمكن أن يسخر من إعلان نشرته جريدة «الأهرام» لمصلحة «هيئة الكتاب المصرية» تدعو المؤلفين العرب إلى استحداث شخصيات عربية «ميكي ماوس»… كأن كل شخصيات الحيوانات المرسومة للأطفال اسمها «ميكي ماوس» أو أنّ هناك تكنيكاً اسمه تكنيك «ميكي ماوس».
ويلاحظ الراحل في أحد الحوارات الصحافية: «الشخصيات الكرتونية الذائعة الصيت التي انتشرت في أنحاء العالم، لم تقرر سلفاً، ولم تصمم كشخصيات «وطنية» أو «عالمية» لتكتسح وطناً أو دولة. فقد نالت كل الشخصيات المرموقة شهرتها وذيوعها عن طريق الاختيار الحر المباشر للجمهور، ولم يكن أحد ممن ابتكروا أو صمّموا شخصيات مثل «ميكي ماوس» يعلم مقدماً بالنجاح الساحق الذي ستحقّقه تلك الشخصيات. ما زلنا نفكّر في موضوع مثل الشخصيات الكرتونية وغيره من الموضوعات بطريقة «التعيين»، لا بطريقة «الانتخاب المباشر الحر».
هذا الدفاع عن الهويّة جعله يكتب أكثر من مرة، موضحاً الفرق بين الرسم العربي والآخر الأجنبي: «إنّنا نكتب من اليمين إلى الشمال. وبالتالي، نرسم ونتفرج من اليمين إلى الشمال. واكتشفت أن أهل الغرب يرسمون صورهم ويتفرجون عليها من الشمال إلى اليمين، وبالتالي فإن الرسم الموفق بالنسبة إلينا هو ذلك الرسم الذي يكون مدخل الفرجة على يمينه».
لكن كيف استطاع اللباد أن يصل إلى تميّزه؟ ربما لأنّه لم يحلم إلا بأن يكون فناناً. لم تكن عائلته تخطط لهذا الأمر أو تتوقعه، حتى إنّه اضطر شاباً تحت ضغط منها إلى الالتحاق بكلية الطب لدراسة طب الأسنان، قبل أن يتركها في العام الجامعي الأول. لم يستطع الاستمرار لأنه كان قد حدد طريقه وميوله منذ الطفولة. هكذا التحق بـ «كلية الفنون الجميلة» عام 1957، وعمل رساماً في مجلتي «روز اليوسف» و «صباح الخير»، قبل أن ينهي دراسته الجامعية عام 1962.
ثلاث قيم
التشكيلي وفنان الجرافيك والرسام المصري الشهير ولد عام 1940 في حي المغربلين في القاهرة القديمة. والده الأزهري ينحدر من قرية شباس الشهداء في مركز دسوق، في محافظة كفر الشيخ. وكان اللباد أول قاهري في عائلته، حيث ولد في المدينة الكبيرة عكس بقية أفراد الأسرة. ورغم أن نشأته في بيت لم يكن يوجد فيه إلا كتب الفقه والدين إلا أن «العلامات البصرية» كانت ذات تأثير كبير عليه، فالفن لا يوجد فقط داخل اللوحة وإنما في أشياء كثيرة: «زجاجة كوكاكولا.. علبة كبريت.. ماركة سجائر.. أفيش سينما.. مانشيت جريدة.. الخ. فهذه الأعمال تحفر نوعا من العلامات في الذاكرة، فعندما نرى علامة ترجع الى سنة 1940 لا نتذكر المنتج فقط وانما ستعود ذاكرتنا الى فترة الاربعينيات كلها».
كانت مناهج دراسة الفن في كلية الفنون الجميلة كلها غربية، صفحات قليلة تتحدث عن الفن الإسلامي والخط العربي، ولكن سافر إلى ألمانيا تحديدا للتدريب. في أعقاب ثورة الطلبة اكتشف أن هناك حالة من التمرد والرغبة في رفض أي شيء، أدرك من خلال هذا التمرد أنه يمنحنا «فانتازيا الهدم» ولا يوجد لدينا شيء مستقر أو ناضج وخاصة في مجال الفن باعتبار أننا لم نصل الى هذه المرحلة التي نحن بها، وحتى الآن كلنا تجريبيون بكل شيوخنا وبالكاد ما زلنا نضع اللبنات الأولى، فيحتاج لسنوات لكي يتخلص من تأثير الحضارة الغربية عليه. وهكذا كما يقول: «بدأت بمراجعة التكوين الغربي والأدوات الغربية وبدأت في اكتشاف الخط العربي الذي كان ينظر له باعتباره «حاجة من بتاعة المشايخ» وبدأت في بحث واكتشاف تراثنا الفني وأتابع في الوقت نفسه النماذج المحترمة في أوروبا بدون تعصب لأننا لا بد من أن نعرف كل شيء في سياقه بدون ثنائيات الاصالة والمعاصرة والذات والموضوع… الخ، هذه الثنائيات الغريبة. وهكذا تكونت وكأنني أرتدي عمامة صغيرة و «برنيطة» في الوقت نفسه، وهكذا اكتشف ذاته وتفرده… واكشف أيضا أن الفن العظيم لا بد من أن يكون مخلصا لثلاث قيم: الاتساق والاقناع.. والحقيقة»!
المصدر: السفير