«مخاوفي السبعة» … رواية حرب البوسنة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مازن معروف
الحرب البوسنية (1992 – 1995) هي البلاتفورم الذي تجري عليه أحداث رواية «مخاوفي السبعة» (دار العربي، ترجمة محمد أسامة) للكاتب سلافدين أفيدتش. حربٌ لن تكون مجرد شاهد بصري أو سينوغرافيا بليدة يسهل تحريك الشخصيات فيها ضمن خطوط درامية أو «أخلاقية» متوقعة ولازمة. إنها في هذه الرواية استعارةٌ كبيرة. قاموس ظرفي. نحن معنيون بدلالاته، نتائجه، قسوته وتوحُّشه. قاموس بمقدورنا أن نستدل فيه على الأكثر دهاء بيننا (أي ذلك الذي يكون قد نجا بنفسه) والأشد دموية أيضاً، على خرابنا البطيء في أمكنتنا المهمَّشة أصلاً، وعلاقة الآخرين بنا. ثم الإشارة إلى ذلك الشعور القاهر بالعزلة الذي نعيشه، بالضعف، بأن شيئاً ما غير مفهوم يحدث، وأن حدوثه سريع، متناسل ومتلاحق. وأن يُتْمَنا هو البعد الإنساني الوحيد والتجربة الوحيدة التي نعيشها. كما لو أن أفديتش يطرح سوالاً واحداً طوال صفحات الرواية: «ماذا يحدث في الحرب؟». السؤال البديهي، والإشكالية اليومية والدائمة، التي نتعايش معها ونرغم على قبولها، ونسلّم بأنها ظرف موقت. من دون أن نعرف من منا بالضبط، سيكون المحظوظ بأن يشهد مثلاً نهاية هذه الحرب، أو ما الذي سيفعله بعدها.
الرواية كانت قد صدرت أول مرة قبل خمس سنوات. وسرعان ما احتفي بها في البلقان، قبل أن تلقى رواجاً أوروبياً. لم يحدث ذلك لأن كاتبها بوسني، يتيم من أيتام الحروب، ولا لأنها آتية من مكان أربكت تعقيداته وصراعاته الإثنية والسياسية «المفاجئة» وتوتره، أوروبا وأميركا، وهو مكان لا يزال معاقباً بصمت إلى الآن، وإنما لأن النقاد رأوا فيها نموذجاً للكتابة الحديثة أو التجريب الروائي. معايير ربما يحلم بها الكثير من الكتاب في مناطق أخرى من العالم، حيث تقيّم الأعمال وتُرَوَّج وفق معايير تتضمن شفقة بدرجة ما على الكاتب، أو شعوراً بالذنب حيال ظروفه، أو كونه الإكزوتيك الضروري لهذه المرحلة، لكن الإكزوتيك الموقت كذلك.
مناخ الحرب البوسنية المفزع، يسترده أفديتش عام 2005، أي بعد عشر سنوات على انتهائها. يستعير علاماته، وسيناريواته المرعبة والقاسية، ثم يُلْبِسُها كأثواب، لشخصيات موزعة هنا وهناك، كما لو أنها مكلَّفة بتظهير هذه السيناريوات إلى القارئ. مناخات عامة تتسم بها كل حرب في أي مكان وزمان، تتحول في الرواية إلى سلوكيات إنسانية فردية، كقتل الأبرياء، التعذيب، الإخفاءات القسرية، الإلتباس الذي يمكن أن يحيط بأي تفصيل، التوق المستعر لإيجاد مفقود، الظلمة والموت، الأرواح المقهورة التي لا تفارق من بقوا على قيد الحياة. ولأن الحرب ليست موجودة بالمعنى الحركي للكلمة، فإن تلك الشخصيات ستبدو في هذه الحالة، كما لو أنها معزولة في تلك المناخات، بل كما لو أن تلك المناخات هي منطقها الحياتي الوحيد. وعلى رغم تشـتتها عن بعضها، إلا أن حقيقة أنه كانت هناك حرب، تعيدها إلى المربع نفسه، كأنها محكومة بالتقارب ومُكرَهةٌ في آن.
رواي الحكاية، يقرر أن يخرج إلى الحياة، بعد أن يظلّ مستلقياً في فراشه لمدة تسعة أشهر متواصلة، لا يرى إنساناً ولا يعرف ما الذي يدور في الخارج. تسعة أشهر ستكون وقتاً كافياً لعزلة ذات ما في مخاوفها وظنونها وآلامها وهواجسها. قراره هذا يأتي بعد أن تكون زوجته قد حزمت أغراضها وهجرته. يعيش على البسكويت بالشاي، فلا يدفع أجرة شقته، ولا يقرأ الجرائد ولا يعتني بمظهره أو نظافته. لكنه في اليوم الذي يقرر مواجهة العالم، تطرق ميرنا بابه، طالبة منه المساعدة في البحث عن أبيها، وصديقه الصحافي في آن، أليكسا رانكوفيتش الذي اختفى في الحرب.
كل شيء محتمل إلى هذا الحد، لولا أن منجماً للفحم ســـيشكل نقطة البحث الرئيسة عن رانكوفيتش الذي يعمل صحافياً وإذاعياً (كأفديتش نفــــسه في الحقيقة)، ما سيدخلنا في نطاق من الثقافات الشـــعبية البلقانية أو الدينية المتوارثة والتي تؤمن بالأشباح أو الأرواح أو الجن وقوتها وِشـــروط ظهورها وتواصلها مع الإنسيين. وعلى الأخص شبح المناجم «بيركمان». ما يعزز المناخ الغرائبي والسوداوي في الرواية، ويضـــيف إلى بُعد الحرب، اليقيني، بعداً مشككاً يحيلنا على صورة المسلحين الذين قاتلوا واختَـــطفوا وملأوا الشوارع ثم صاروا بمثابة أشباح، يقيمون بين المدنيين في شكل عادي، بعد الحرب. هذا رغم الأخطاء الفادحة في التحرير والترجمة.
في بحثه عن الصديق، يختبر الرواي الهش والقلق أصلاً، أمكنة مادية ضيقة (الشقة، منجم فحم، الحانة، مكان الأخوين المجرمين «أهلوبين» و «علاء الدين»…)، تحرض الهذيان فيه، وتستعيد «سلوكيات» الحرب، الأمر الذي ينسحب على السرد، فيصبح التداخل بين الجنون والعقلاني أكثر بروزاً، ويجنب النص الالتزام الحرفي بحبل سردي واحد، بل يمكن أي صوت وأي هاجس أن يتدخل في النص لوهلة، بصيغة قطع نثرية، بعضها يحمل طابعاً شعرياً، وبعضها تاريخي أو فانتازي. فتنطفئ الحدود بين المادي والميتافيزيقي، والقدري والمتوقع. يمهد ذلك لتداخل أصوات شخصيات أو مخاوفها بعضها ببعض (الرواي ورانكوفيتش عبر مذكراته)، ما لا يوفر القارئ أيضاً الذي يفرد له أفديتش سبع صفحات فارغة في نهاية العمل لتدوين مخاوفه هو أيضاً.
المصدر: الحياة