مدخل لقراءة المنجز الروائي للمغربي صدوق نورالدين

الجسرة الثقافية الالكترونية

شكري نصر الدين #

حينما خرج الناقد الأدبي صدوق نورالدين على الناس بروايته الأولى «الكوندليني» (دار النايا، سوريا، 2010)، ظن البعض أن الأمر مجرد رواية أخرى تضاف إلى نصوص روائية مغربية صادرة ذلك الأوان، وقال البعض الآخر إنها تعبير إضافي عن الهجرة إلى الرواية التي أضحت في ذلك الإبان، وحتى يوم الناس هذا، بمثابة دّرْجة، أو موجة لا بد للكاتب أن يركبها، سواء جاءها من القصة، أو من الشعر، أو حتى من الطب! لكن قلة قليلة كانت تعرف أن الأمر يتعلق بحدث أدبي غير مفرد، وبأن في جعبة الناقد، الوافد الروائي الجديد، ذخيرة من السرد راكمتها أكثر من ثلاثة عقود من القراءة النقدية المتأنية والمتواصلة ومن التجربة الحياتية. وبالفعل، خرجت إلى النور تباعا، روايات أو لنقل نصوص روائية جديدة: الروائي (الدار العربية للعلوم ناشرون ـ أزمنة، 2011)، مريض الرواية (دار النايا، دار محاكاة، 2012)، نثار الذاكرة (دال للنشر، 2012)، والكوندليني مرة ثانية (النايا، محاكاة، الشركة الجزائرية السورية، 2013).
ولعل الوضع الاعتباري للكاتب صدوق نورالدين بصفته ناقداهو ما خلق بالفعل حدثية إصداره الروائي الأول الذي كان بالفعل مؤشرا على هذه الرواية النقدية التي نسعى إلى إظهار تجلياتها من خلال منجزه الروائي. إذ تمثل «الكوندليني» بالفعل ذلك النص- البرنامج، الذي أجمل فيه، عبر فن التكثيف معظم القضايا الفنية والجمالية التي بسطها وما يزال في أعماله الإبداعية اللاحقة. لأن السمة النقدية بادية منذ عتبات النص الذي ضم فهرسا جديرا بكتاب نقدي، حضر فيه الخطاب المقدماتي والهوامش والملاحق، على أن هيمنة «النقد» و«النقدية» لم تسم العتبات فحسب، بل تسربت إلى المتن الروائي بما هو حكاية/ حكايات، لها شخصياتها الرئيسية والثانوية، بأزمنتها وأمكنتها؛ حيث أن تثوير الرواية، والكتابة الروائية نابع من داخل الرواية أيضا، وليس من الحواشي والمقدمات والهوامش، الدالة على الكتابة الروائية الفاعلة مثلما نظَر إليها ونظَّر لها صدوق في متنه النقدي على امتداد أكثر من ثلاثة عقود. إن الجمع بين الوضع الاعتباري: ناقد- روائي، هو ما جعل من الالتباسات الأجناسية مسألة مؤسسة للمتن الروائي عند الكاتب الذي يلعب ويتلاعب بهذه الازدواجية التي تتيح للروائي المجرد الكتابة عند تخوم أجناس أدبية وغير أدبية عديدة، مستفيدا من ثقافة الروائي- الناقد الملموس الذي خبر النصوص السردية، من قصص وروايات، والنصوص النقدية، المغربية، والعربية والعالمية على السواء. إن التداخل بين النقدي والإبداعي يجلي ذلك الوصف: الرواية النقدية، بحكم الدلائل الفنية والجمالية الواردة تكثيفا في «الكوندليني» بداية من خلال تفكيك المفاهيم المؤسسة والمكرِّسة لتجليات الرومانيسك: الشخصية، الرواية، القراءة، التبئير.
قيل وكتب الكثير عن «الشخصية» بصفتها مفهوم مؤسس في علم السرد وفي الإبداع الروائي والقصصي على حد سواء، باعتبارها أس العمل الحكائي، لا حكاية دون شخصية، على الأقل شخصيتين في الحدود الدنيا. وإذا كان النقد الأدبي قد أفاض في هذا المضمار فإن الكاتب الروائي يسعى بدوره للتعاطي مع هذا المكون الدينامي الذي لا محيد للحبكة والحكائية عنه. والنظر إلى الشخصية الروائية رهين بالنظرة النقدية، سواء كانت نظرة ساذجة (القارئ العادي، المستهلك للحكاية) أو عالِمة (نظرة الناقد، القارئ الخبير) التي تطورت وفق تطور الأجناس الروائية بفروعها، وتنويعاتها عبر التاريخ الأدبي، إن محليا أو عالميا. والروائي المغربي والعربي، في هذا السياق، لم يعد في وسعه التعامل مع الشخصية مثلما كان الأمر بداية القرن العشرين، مثلا، بل وحتى بعد ثورة الرواية الجديدة le Nouveau roman، وبالتالي فإن الكاتب الروائي يكتب داخل هذا التقليد الأجناسي الذي لا مفر منه، والذي عليه أن يتميز عنه بالضرورة إن أراد الإبداع وليس الإتباع. ولعل هذا التناقض في الألفاظ هو ما يجعل الكاتب الروائي راهنا يتجاذبه محوران: محور الإبدال الإبداعي ومحور الإبدال النقدي، النظري. فهو يكتب في هذا الخضم من تضارب الأجناس وتنافيها، وتقارب الخطابات والتباساتها، وهيمنة الصورة الرقمية وغيرها من مجليات الحداثة، هو الذي لا يتوفر سوى على الكلمة، على اللفظ، للتعبير عن هذا الصراع الذي لابد من خوضه ضد القواعد، والتوقعات، والكليشيهات، مع الغموض وضده، في تخوم متحركة، يوما عن يوم، وانتظارات قرائية، محلية وعربية. لذلك كانت الشخصية الروائية هي المعمار الحقيقي الذي ينتسج عليه النص الروائي الحداثي، إذ عبرها تمرر الأفكار والتصورات، من خلالها تترجم العواطف والانفعالات، بحكم أن الشخصية هي المكون الرئيسي الذي يتجلى عبره المؤلف باختياراته الفنية والجمالية والفلسفية. وبذلك كانت المدخل الرئيس الذي سلكه صدوق نورالدين لوضع لبنات منجزه الروائي، فالشخصية في «الكوندليني»هي المحور الذي تدور عليه الحكائية والكتابة معا، من خلال سؤال الهوية، من هو الكوندليني، ماذا يكون، كيف يكون؟ فهو طورا شـخصية رئيسـية في الرواية التي بين يدي القارئ، وهو تارة شخصية روائية لعمل روائي صدر نهاية الثمانينات من توقيع عفيف ربيع، وهو في أخرى شخص ينتمي إلى عالم الرواية بمرجعية تخييلية (بوجمعة العافس) ورابعة كشخص له مرجعية تاريخية. فالكوندليني شخصية روائية» تخرج من المجهول إلى المعلوم لتترك بصمات في الحياة كبقية الشخصيات الروائية بعيدا عن وهم إدعاء مشابهة أو مماثلة»(ص 21)، أو قد تكون أكثر من حياة واحدة بمعنى أكثر من شخصية، إنها شخصيات»(ص.22). ها هنا يتجلى الإجراء التأليفي الذي نجمله في المضاعفة والانشطار وتبادل الأقنعة والتشويش الذي يطال الهوية، فتداخل الذوات يسمح بتعدد الأصوات الذي يضطلع بتنظيم السرد من خلال عمليات التقديم والتأخير والانتقالات الزمنية والفراغات، والمحو وغيرها من الأساليب التأليفية التي خبرها صدوق نورالدين قارئا وناقدا ثم مبدعا في مجال الرواية.
والرواية، هذه المرة بصفتها مفهوم ثان يخضعه صدوق للفحص والتنقيب من داخل الرواية، مثلما هو الشأن في «الروائي، محمد زفزاف يكتب»الثعلب الذي يظهر ويختفي» أو على التخصيص في «مريض الرواية». والانتقال من الشخصية إلى الرواية، انتقال سلس نرصده في تركيز صدوق على مكون الشخصية لبناء عالم روائي يقوم في جزء كبير منه على شخص واقعي، له وضعه الاعتباري بصفته مبدع، أولا، وانسان طبعا، ونقصد بذلك الروائي والقاص الكبير محمد زفزاف الذي أدخله صدوق بانتيون الإبداع من خلال تخليد اسمه هذه المرة كشخصية روائية عبر «نسج حياة محمد زفزاف في نص لا يترجم سوى أقصى اللحظات». اللعب، بل التلاعب بشخصية ذات مرجعية واقعية وتحويلها إلى شخصية متخيلة، مع ما في ذلك من ضرب وخلخلة لمفاهيم مؤسسة مثل الإيهام بالواقع، وأثر الواقعي، ويصير كاتب مشهور شخصية روائية وتصير الرواية متنا يتم الدخول معه في حوار وكل ما يتطلبه من حذف وقلب، وشطب، وإضافة، وتشكيك وغيرها من الحيل والخدع الروائية التي يفصح عنها صدوق ويفضحها، يعرضها ويعريها، ليبرز زيفها، وهشاشتها، وهو في كل ذلك، لا يستكين إلى الخطاب النقدي، ولا يجعله مهيمنا إلا بالقدر الذي يتيحه السياق الداخلي للحكاية والبناء الدرامي عموما. فمحمد زفزاف الشخصية، هو صورة فقط لما انطبع في الوجدان خلال مرافقة صدوق للكاتب المغربي حياتيا، وابداعيا، وبخاصة عبر روايته «الثعلب الذي يظهر ويختفي» التي تعتبر كرنطوبا لوحدها، كرنطوب اللقاء، والسفر، بين البيضاء والصويرة، ذهابا وإيابا، في الأمكنة وفي الأزمنة (بين سنوات 1984، 2001 و2003). صدوق نورالدين القارئ الناقد والمحاوِر، الذي جاء للتعرف عليه، بعد قراءة متنه الروائي المنشور إلى ذلك العهد (ص 20)، هذه الحوارية التي تتكشف عبر تعدد الوسطاء، مثلما يحكي صدوق عن زفزاف في إحالة إلى توفيق الشاهد الذي حكى ما شاهده إلياس خوري. وتكثيف شفرة الأسماء الأعلام في حيز نصي ضيق يرسم منذ الصفحات الأولى من الرواية أجواء وعوالم محمد زفزاف: الطاهر وطار، سعدي يوسف، عزالدين المناصرة، عدنان ياسين، وغيرهم، ووصف الشخصية المحورية، زفزاف، من توصيفات نصوص أخرى وفي ذلك استثمار لحوارية النصوص وتصاديها الذي يظهر مقدرة الكاتب صدوق وسعة اطلاعه على المنجز الزفزافي: «بائعة الورد»، «كيف نحلم بموسكو«، «الملاك الأبيض» على سبيل المثال لا الحصر. (ص.22 وص 23)، أو من خلال المزاوجة بين السرد (الخطاب الروائي) والتعليق (الخطاب النقدي)، بالتناص الداخلي، منجز زفزاف الروائي، أو التناص الخارجي، ياسوناري كواباطا، وغيره، في فحص دقيق لتشكل الرومانيسك عند زفزاف مرحلة «الثعلب الذي يظهر ويختفي»، ملتزما باحترام «المسافة بين الخيال والواقع عند رسم شخصية زفزاف مثلما أسر إلى الكاتب قيد حياته» لن أخون المسافة بين الواقع والخيال، مثلما حدث في «بورخيس في الآخرة» و«جيمس جويس»(ص 29)، في هذا الحيز الوهمي بين الواقع والخيال يؤثث صدوق روايته عن زفزاف منتقلا من الحياتي إلى الأدبي، بين الكتاب والمقروء، بين الجنس السيري والسير ذاتي واليوميات، والمتخيل، بين التذكر والنسيان، النسيان للكتابة؛ بين المرأة الواقع، والمرأة الحلم، بين الصويرة الحقيقية والصويرة خيال جيل بأكمله، تلك المدينة الصغيرة «التي تعلم أبجدية الحياة»، بين الحلم بالكتابة وعسرها، وعناء إيجاد الكلمة الأولى، البداية الأولى، لكتابة نص مختلف ومغاير، يصيب بالدوار، في الإحالة على نص مكتمل داخل سياق الحديث- السرد عن كتابة هذا النص ذاته: «مسترخيا على الكرسي، فيما رصيف المقهى يشغله الفراغ، استحضر الروائي الذي يظهر ويختفي، أسماء مضاعفيه بامتداد الخيال: بومهدي، محمد، حميد، سليمان..والآن علي» (ص 70)، وتعدد مسميات المرجع الواحد: هي الصويرة، ميكدور، موغادور ميكدال. المدينة والعلاقة التي ينسجها الروائي معها؛ التيه، مفتاح اكتشاف المدن؛ المدينة التي تهب الناقص وتعوض الفقد.
وبقدر ما كانت «الكوندليني» رواية الرهان على المتلقي وانفتاحه، حيث القارئ يضطلع بدور لا يقل أهمية عن صنوه الكاتب، فإن «مريض الرواية» تراهن على القراءة بوصفها المفهوم المركزي الذي يستند إليه المؤلف لتشييد معماره الروائي، جاعلا من الشخصية الرئيسة عثمان «قارئ الورق» و«قارض الورق»(ص 18)، شخصية تقرن سيرة حياتها، أو مقاطع منتقاة منها بسيرة كتب دالة، واسمة، طبعت الوجدان، والخيال وعالم الحياة معا، وتغدو الرواية بأسفارها الثلاث، سَفَرا وسِفْرا يمتزج فيهما السير ذاتي بالمتخيل الذاتي، في مغامرة حكائية عبر مقروءات عالمية وازنة تنير طريق عثمان، تلك الطريق المليئة بالمنعرجات والالتفاتات إلى الوراء، الضاجة بالأحلام، بالأمكنة وأشباح الأمكنة. لأن أهمية وقيمة الآداب العالمية في تشكل فعل القراءة والمعرفة هاجس حاضر منذ رواية «الكوندليني»، التي احتفى فيها صدوق بالقراءة وتاريخ القراءة على هدي بورخيس ومانغويل. فشخصية عثمان هي ذلك الكائن من ورق الذي يحيا من الكتب، بشخصياتها، وحواراتها، وأمكنتها الدالة. كتب هي علامات لا محيد عنها للقارئ في جنس القصة والرواية حيث يرى السارد في الكوندليني: «أن الخاصة الأساس التي تسم العالمي، إنما تكمن في البعد الانساني، حيث إن القضايا المعالجة لا ترتبط وتتحدد فيما هو محلي، إقليمي، وبالتالي خاص، وإنما في الأفق المفتوح عن ولمثل هذه القضايا مما يمكن أن يطول الجميع وقد لا يمس أحدا» (ص 169). فمريض الرواية بمثابة أحجية بازل، لبناتها الأساسية فراغات تملؤها مقروءات عثمان وجلسائه، الأزعر، محمد الخارج من عباءة نيتشه، المليونير الحزين، فريد، جاكلين، زوربا الإغريقي، «أمس»، «الكذبة الثالثة» لأغوثا كريستوف، حضرة المحترم، خان الخليلي، ميرا مار نجيب محفوظ، و«بيريرا يدعي» لتابوكي وغيرها من الكتب- العلامات الفارقة، التي تلعب دورا محوريا في حياة الشخصيات الروائية وتتداخل معها في لعبة التباسات شيقة بين الخيالي والواقعي، بين المتخيل والذاتي، بين الأنا والهو، وهذه خاصة أساس عند صدوق بها يربك كل مسعى للقبض على الهوية الثابتة للذات المتكلمة، حيث «الأنا» تتشظى في الأنوات، في الآخرين، لعبة تبادل الأقنعة والصوت السارد والعين التي ترى. وهذا الإرباك هو ما يؤسس رواية «نثار الذاكرة» التي يذهب فيها صدوق بإمكانات التبئير إلى مداها، جاعلا المتن الروائي نهبا لإيقاعات ثلاثة، يصعب على القارئ المتسرع ضبطها، ومواكبة تناغمها ما لم يدخل لعبة القراءةـ الكتابة بأنا المتلقي المساهم بفعالية في إعادة بناء المحكي ذي صيغ سردية مميزة عمادها التمرئي والتقعير والتغيير في وجهة النظر على خلفية جنس الرواية العائلية وتخصيص مكانة بارزة لصورةـ شخصية الأم منبع المحكي ومصبه

#القدس العربي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى