«مذكرات شَيهَم» لآلان مابانكو … من أعماق إفريقيا

صبحي موسى
لا يملك القارئ سوى أن يتوقف أمام عنوان رواية الكاتب الكونغولي آلان مابانكو «مذكرات شَيهَم»؛ الصادرة بترجمة الكاتب التونسي أبو بكر العيادي عن سلسلة «الجوائز»/ الهيئة المصرية العامة للكتاب، متسائلاً عن ماهية الشيهم (بفتح الشين وتسكين الياء وفتح الهاء)، ولن يستطيع معرفته من دون الولوج إلى عالم الرواية المدهش، حيث التمازج بين البشر والأشباح والمثل الشريرة، وحيث الحضور الطاغي للطبيعة والثقافة الإفريقية ومقولاتها وبساطة الحياة فيها بين الأكواخ وعلى ضفاف الأنهار وتحت السماء المليئة بالنجوم. هكذا تتضافر عوالم شتى في نص واحد لا يزيد على مئة وخمسين صفحة، لنجد أنفسنا أمام تصور جديد للعلاقة بين الكائنات التي تعيش على هذه الأرض، ولنرى الأسطورة بكل تجلياتها وهي تحكم مخيلة شعوب مازالت تدب على الأرض، ولتتفتح أعيننا على طقوس وأساطير مشابهة في حياتنا وقرانا، مدركين أن الفروع التي امتلأت بأوراقنا نشأت كلها من جذع واحد في قارة سمراء. بطل هذه الرواية هو شخصية شريرة مارست شرَّها تجاه الكثيرين، حتى أنها قتلت تسعة وتسعين شخصاً، وفشلت في المرة المئة، وانتهى الأمر بموتها على يد طفلين كانا بمثابة جنيين حارسين لطفل رضيع قتل على يد كيباندي وشيهمه.
لكن الحياة ليست ببساطة هذه الرؤية العُلوية، فالنفس البشرية أكثر تعقيداً من الحكم بأن شخصاً خيّر وآخر شرير. ومن ثم وزَّعت الأساطير النفسَ إلى ثلاثة وجوه، أولها الشخص، وثانيها مثيله من الحيوانات، وثالثها ما أطلق عليه الكاتب مصطلح «هو نفسه الآخر»، وهو تجل يشبه الهُوَ لدى علماء النفس، بينما الشخص يمثل الأنا، في حين يمثل المثيل الأنا الأعلى، ومن ثم يبدأ الفعل الشرير من رغبة الهو /»هو نفسه الآخر» في أن يتغذى، فيطلب الشخص /الأنا من المثيل/ الأنا الأعلى التنفيذ. وفي حال موت المثيل يموت الشخص ويختفي الهو نفسه، وهو ما يذكرنا بما يقوله العامة في الريف عن تحول التوأم إلى قطٍ في الليل، وفي حال ضربه فإن الآدمي هو الذي يتألم أو حتى يموت، إذا كان الضرب مميتاً. هكذا وضعنا الكاتب في عمق المثيولوجيا الإفريقية عبر اعترافات «شيهم» على هيئة قنفذ لشجرة «باوباب» عتيقة بما كان يفعله هو وسيده من جرائم، وكيف كان الأخير يأمره بقتل كل من كان يعترض طريقه أو يشعر أنه يمارس أفعالاً شريرة، وأن هذا القتل كان لإشباع نهم شبح الشخص أو صورته التي ترجمها العيَّادي إلى «هو نفسه الآخر». وفي الطريق إلى حكاية كيباندي القاتل عبر مثيله الشيهم نتعرف على عالم المُثُل المسالمة والمُثُل المضرة، وكيف لا بد أن يشرب الشخص شراب «المايمفومبي» المسكر ليستطيع استحضار مثيله، وممارسة سلطته عليه، وكيف يظهر له «هو نفسه الآخر» بعد هذه العملية، لتبدأ رحلة القوة التي كلما أطعمتها تزداد جوعاً. كان والد كيباندي يتمتع بهذه الموهبة، ولم يمت إلا بعدما سقى ابنه شراب المايمفومبي، لكن الأمر لم يكن موهبة فردية خاصة به، فثمة آخرون يعرفون مثيلهم المضر، ويستخدمونه في التخلص من أعدائهم ومنافسيهم، وثمة سحرة يستطيعون معرفة القاتل ومثيله، وثمة طقس شهير تتعرف الجثة من خلاله على قاتلها، هذا الطقس الذي كتب عنه أحد زوار القرية من الغربيين البيض فاشتهرت، وتوالى حضور السياح إليها لرؤية الطقس فامتنع أبناء القرية عن تنفيذه، وامتنعت الجثث نفسها عن الانصياع لأوامر السحرة. فضلاً عن أن ثمة نبتة يضعها القاتل في دبره تضلل أقنعة السحرة وجِنِهم عن أصحاب المُثُل المضرة. هكذا فعل بابا كيباندي حين قتل ابنة أخته، وهكذا فعل كيباندي نفسه حين قتل الفتاة التي رفضت الزواج منه.
تحتفي الرواية بالعديد من المقولات الشعبية (من كثرة ما تمنى الضفدع ظروفاً أفضل وجد نفسه بلا ذيل للأبد)، (حيوان محترس يعادل اثنين)، (إن رأيتم أخرس يجري فاتبعوه، لأنه لم يسمع الخطر بل رآه). وكأن آلان مابانكو؛ المولود عام 1966 في برازافيل عاصمة الكونغو الديموقراطية أراد أن يؤكد انتماءه إلى ثقافته الإفريقية، في مواجهة الثقافة الأميركية التي يقيم فيها، ويدرس الأدب الفرانكوفوني في جامعاتها. لنجد أنفسنا أمام مشكلة هوية معقدة، إذ إن اللغة الشعبية هي البنغالية، بينما اللغة الرسمية هي الفرنسية، واللغة التي يتعامل بها آلان مابانكو في أميركا هي الإنكليزية، هكذا تتعدد الثقافات وتتصارع لديه، ليجد نفسه على رغم أنه يكتب بالفرنسية يذهب إلى أعماق الثقافة الإفريقية الأم ليكشف عن جوهرها الأساس، متشككاً في ما قدَّمه له الرجل الأبيض من إسهامات تنويرية، بداية من التبشيريين الذي حملوا الكتاب المقدس معهم (إذا أردت أن يضحك الرب فحدَّثه عن مشاريعك)، وصولاً إلى المستشرقين الذين كتبوا عن طقوس بحث الجثة عن قاتلها في كتب الإنثربولوجيا، باعتبار ان حياة الأفارقة ومعتقداتهم لا تزيد عن كونها عالماً من الخرافة المدهشة.
لا نعرف ما الذي جعل آلان مابانكو يضع ملحقاً في نهاية روايته تحت عنوان (رسالة من الحلزون العنيد حول مصدر مخطوط مذكرات شيهم) موضحاً فيه أن النص يعود إلى شخصية تدعى «كوب مكسور» وهو خطأ في نية السرد وتكنيكه، إذ إنه كان من الممكن استقبال النص على أنه حكاية شعبية، وليس نصاً روائياً له مؤلف يدعى الكوب المكسور، فقيمة أي عمل أدبي تزداد حينما يتماهى مع مخيلة الضمير الجمعي للمكان، وهو ما نجت فيه «مذكرات شيهم»، بكل ما فيها من خرافة وتمازج بين الكائنات، وكون القنفذ/ الشيهم هو الراوي الحقيقي لها، كان هذا الإطار هو أفضل الأطر التي جاء من خلالها النص لكن المؤلف أصرَّ على إضعافه عبر رسالة الحلزون إلى دار النشر، إذ إنها أسقطت العمل من علياء المخيلة والضمير الجمعي، إلى نص يحتفي بالخرافات وحكايات السحرة والمشعوذين لكاتب مجهول يدعى «الكوب المكسور».
(الحياة)