مرثية روائية لعالم الأثرياء في قارة بعيدة

ممدوح فرج النابي

تعبر رواية فرانسيس سكوت فيتزجرالد “جاتسبي العظيم”، عن إخفاق الحُلم الأميركي، ويطرح التساؤل عن جمالياتها التي جعلت منها واحدة من الروايات المهمة والملهمة، فحالما ننظر إلى موضوع الرواية نكتشف أنه بسيط للغاية، وعُولج بطريقة كلاسيكية عبر مراوحة بين سرد التأمّل والاسترجاع. الرواية في شكلها الخارجي تبدو رومانسية إلا أنها تتجاوز الرومانسية إلى الرمزية، ولنا أن نضع شخصيات ميس بيكر وما ترمز إليه من تحرّر، وشخصية ميير ولفشايم اليهوديّ الذي يرمز إلى سطوة المال وموت المشاعر، في سياق فترة العشرينات من القرن الماضي.
رجل بلا ماض

الرواية، التي صدرت مُؤخَّرًا عن دار الكرمة 2017 بترجمة محمد مستجير مصطفى، لها راو أساسي هو نك كاراوي الشّاب الثلاثيني خريج جامعة ييل ومحارب سابق خلال الحرب العالمية الأولى القادم من قلب الغرب الأميركي الأوسط ليعيش في نيويورك، ويمارس مهنة المال والمصارف، يتناول الراوي شخصية جاتسبي الغريبة، عارضًا لمظاهر الحياة التي يحياها، وعلاقاته مرورًا بماضيه، انتهاء بفاجعة قتله وانهيار أحلامه التي لم تتحقق، وإن كانت تعبيرا عن إخفاق زمن الأحلام جميعًا.

يبدأ الفصل الأول الذي هو أشبه بسيرة ذاتية للراوي نك، بالتركيز على شخصيته وعائلته الثرية وقدومه إلى نيويورك. كما يقدم أيضًا مَسحة تعريفية لشخصياته التي ستستمرُّ معه إلى نهاية الرواية وهي: ابنة عمه ديزي وزوجها توم بوكانان صديقه منذ أيّام الكلية، وأحد أقوى المهاجمين الذين لعبوا الكرة في نيوهافن، وأسباب مجيئهما إلى الشّرق بعد أن قضّيا عامًا في فرنسا، وجوردان بيدكر أو ميس بيكر لاعبة الغولف التي يُمنِّي نفسه بعلاقة معها، وصولاً إلى جاي جاتسبي وقصره الفخم.

يستفيض الراوي بعد ورود اسم جاي جاتسبي من خلال الشخصيات في الحديث عن جاره الذي يقيم في القصر الفخم، وصاحب الحفلات الصاخبة التي يقيمها كل ليلة، يروي عن قُرب عادات الرجل الثري الذي يبدو غريبًا في تصرفاته وأيضًا في طلباته. اللافت أن كل المعلومات عن هذه الشخصية المبهمة تظهر في الفصل الثالث فقط بعد دعوة نك لإحدى حفلاته وإن كانت بغرض استغلال علاقة نك بديزي لترى قصره من بيت القريب.

تأخذ الرواية مسارًا آخر عبر علاقات هذه الشخصيات ببعضها البعض، وكذلك تاريخ بعض هذه الشخصيات، فتعرض لصورة أخرى عن المجتمع الجديد، وشخصياته. وأهم ملمح في هذه الصورة أنه مجتمع انتهازي حافل بالشائعات التي تروَّج بطريقة إطرادية. يستغل جاي جاتسبي الإشاعات لترويج تاريخ كاذب عن نشأته وعائلته التي توفيت كلها. وهو تاريخ يتضح في النهاية أنه كاذب، وأن ثمّة ماضيا يصر على إخفائه. كما تتوقف الرواية عند الحياة اللاهية التي يعيشها الناس في الغرب.

كانت الحياة التي يعيشها جاتسبي أشبه بالخواء، فهو دائما يقيم الحفلات لأشخاص لا يعرفهم، ويغدق عليهم ببذخ. تكشف أحداث الرواية عن علاقة قديمة بين جاتسبي وديزي، قبل خمس سنوات. ورغم قدم العلاقة وزواج ديزي بتوم فإن جاتسبي لم ينسَ الماضي، فطيلة السنوات الخمس كان يقرأ إحدى صحف شيكاغو عساه يقع مصادفة على اسم ديزي. الغريب أنه أثناء انشغاله بتكوين حاضره يسعى إلى استعادة ماضيه، معتقدًا أنَّ كلَّ شيءٍ يمكن الحصول عليه بالمال؛ فقد اشترى جاتسبي القصر كي تكون ديزي أمامه عبر الخليج، ثمّ يبدأ بالتقرب إلى نك ابن عمّ ديزي، ويدعوه إلى إحدى حفلاته بعدما فقد الأمل في أن تأتي هي، ولمـّا لم تأتِ قرَّر أن يطلب هذا الطلب من نك عن طريق جوردان.

في الحقيقة كان إغراء المال وسيلة جاتسبي لإقناع ديزي بعودة الحبِّ الضائع بينهما، فتحايل على ميس بيكر ونك في تدبير لقاء له بديزي، وعندما تحقَّق له من خلال منزل صديقه نك الذي يناديه بـ”أيها الصديق العجوز”، تبدأ حفلة الإغراءات، فيتجولان في قاعات الموسيقى من طراز ماري أنطوانيت، وقاعات جلوس من طراز عصر النهضة، وحجرات المنزل المتعدِّدة التي تزهو بالأزهار الجديدة، وقاعات الزينة وأحواض السباحة، وحجرات حمَّام ذات مغاسل غائرة. يمعن الراوي في وصف مشاعر جاتسبي وديزي في منزله ولحظات التباهي وهو يفتح صوان الملابس والحليّ، وكأنه يريد أن يثبت ثراءه لهذه الحبيبة القديمة، وبعد البيت أخذهم في جولة في الحديقة وحمام السباحة والطائرة البحرية.
الانتهازيون الجدد

لا تخلو نهاية الرواية التي تأتي وكأنها أشبه بالنهايات الدرامية من فلسفة عميقة تكشف عن أسباب شهرة الرواية، حيث تتصاعد ذروة الأحداث بعد الصدام الذي تمّ بين توم وجاتسبي، عقب إخبار جاتسبي له بأنه يحب ديزي، ويجب عليه أن يتخلَّى عنها لأنَّها لا تُحبّه، وهو الأمر الذي رفضه توم، وإن بدت في ذروة الاحتدام والصِّراع بينهما تلمحيات توم إلى مصدر ثروة جاتسبي، وشكِّه بأنّه ما هو إلّا مجرد مجرم متستر جمع ثروته الهائلة من عمليات تهريب الكحول ونشاطات غير شرعية أخرى، فيضطر جاتسبي إلى الدفاع عن نفسه ويكشف عن أصله الفقير المتواضع، فيحكي قصة لقائه صدفة مع الثري العجوز دان كودي، وكيف أسدى له خدمة بإنقاذ حياته من غرق مُحتم.

الإغراء بالمال كان وسيلة جاتسبي لإقناع ديزي بالتخلِّي عن زوجها، إلّا أنّها تراجعتْ عنه، ضمن قائمة التردادت التي كانت صفة أصيلة لها منذ أن رفضتْ إتمام الزواج من توم ثمّ في اليوم الثاني صارت مهووسة به. التحوُّل الخطير هو تفكير توم في التخلِّص من جاتسبي، وهو ما يعكس حالة العنف التي تبدت لتحقيق الفردانية، فديزي تقتل ميرتيل عشيقة زوجها السّرية بسيارة جاتسبي الكوبية، وهي الحادثة التي يستغلها توم نكاية في جاتسبي، ويذهب ليخبر زوجها ويلسون بتفاصيل الحادثة التي قُتلت فيها زوجته، وبالفعل يذهب ويلسون مُتسلِّلًا إلى حديقة جاتسبي ويقتله بالمسدس ثمّ ينتحر لينتهي طموح المال بهذه النهاية المأساوية التي تُجسِّد صراع المال والمشاعر، في حلقة انتهازية يبديها أصحاب الأموال، برغبتهم في السَّيطرة على ما في يد غيرهم.

مع نهاية الفصل الأخير تتصاعد حدّة انتقاد الراوي لهذا المجتمع الجديد، ورجاله الانتهازيين، فيقدم مرثية لهذه الطبقة الجديدة في صورة مشهد وفاة جاتسبي الذي لم يُشارك فيه سوى ثلاثة أشخاص، مُقارنة بمشهد الحفلات التي كانت تُقام في القصر، فينطفئ الزخم الذي كان عليه القصر من الأضواء الصّاخبة التي تُضيء المكان، والموسيقى والعربات الفخمة التي تنقل الضيوف إلى القصر، وتحلّ حالة من السّكون بعد مقتل جاتسبي.

ثمة عبر وتأملات أراد نك أن يقولها كتعبير عن سخطه ونقمته على هذه الحياة الجديدة، وهو جوهر الرواية، فالراوي في تأمُّلاته بين مشهدي البداية والنهاية يُعبِّرُ عن حياة الوهم والكذب التي يعيشها الأثرياء، فما يحاطون به مِن أصدقاء وما يظهره لهم هؤلاء مِن مَودة، هو في الحقيقة ليس حبا فيهم وإنما لما يملكونه مِن مال وجاه.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى