مريم – حسين المحروس

الجسرة الثقافية الالكترونية – الحياة
الرجال يخجلون من ذكر أسماء بناتهم، يتوارون خجلا عند زواجهن وحملهن وولادتهن، النساء ينتظرن ولادة ذكر يُزاحم اسمه أسماءهن، وحين تموت امرأة في الحي وتُحمل على النعش؛ ويستعجل بها حمالون، يقصدون أقصر الطرق إلى القبر، يستفسر شخص صادف طريقه مرور الجنازة عن الميت، فيقال له: «امرأة» ولا شيء غير ذلك.. كانت أسماء النساء تضيع إلا اسم مريم التي تُخضب أيدي النساء في الأعراس
هكذا يفتتح حسين المحروس روايته عن مريم، وسيرة الخضاب، والنساء اللواتي ضيعن أسماءهن، ولكن ما تفعله الرواية هو العكس؛ إذ تُصر على ذكر أسماء النساء، بل تُسمي كثيرا من فصولها بأسمائهن.
العنوان لا يعدو أن يكون خدعة كبيرة، فهو يفتح شهيتنا على حكاية مريم أم عيسى، من عساها تكون؟ لنكتشف أنّ الرواية هي حكاية عدد ليس قليل من النسوة. قصة آمنة بنت حسن التي غطت وجهها حتى نسيه الناس ونعتت بالهدية؛ لأنها تهتدي لمرادها بقلبها لا بعينيها. قصة خاتون التي كبرت في عُرسها وتركها الكاتب لتحكي قصتها بضمير المتكلم. قصة خاتون وقصة أنيسة وأمون ونافعة وغيرهن من النساء اللواتي كنّ يُضئن بحضورهن رائحة المكان البحريني القديم. يحكي أيضا عن العمة التي تثقب آذان الفتيات الصغيرات بإبرة فيها خيط أسود، كما كانت تحلق شعر رؤوس الصغار.
لو لم أكن أعرف أنّ الكاتب رجلا لظننته امرأة، لاقترابه من عوالم سرية بوصف شهي ولغة جذابة. يرسم المحروس عالم المرأة الخارجي بدقة وبانتباه عالٍ لحركاتها وسكناتها، لملابسها وزينتها. لكنه لا يتمكن من غزو دواخلها العميقة كأنها تستعصي عليه، ولا تسلمه سرّها بسهولة. أو كأنه مكتفٍ بمراقبتها من الخارج. لا تنهض هذه الرواية على عمود فقري مُتصاعد بل تنتفض تفاصيلها على جسد هُلامي.
تكشف رواية «مريم» تفاصيل حياة انقرضت. انتهى زمنها. بشر ذهبوا بعاداتهم وتقاليدهم وأعمالهم التي يزاولونها. يحكي عن زمن ليس فيه مساحيق تجميل ولا مراهم ولا كريم أساس ولا روج. ليس سوى الكحل للعين والديرم للشفاه، وهما أدوية قبل أن يكونا أدوات زينة. يسكبن ماء الورد على وجوههن، ومن تضع العطر هي: «طيارة.. لن تعود حتى يطير منها العطر» (ص77). ليس للقاءات النساء مواعيد. يلتقين في طرقات الحي، يتحدثن كلهن في وقت واحد. فليس المهم الإصغاء، لكن المهم هو إخراج الكلام من الصدور.
يُخبرنا المحروس عن عادات دخول شهر محرم عندما تُخبيء الجدة مريم خاتم العرس واثنين من معاضد الذهب في قماش أسود تسميه «المينة». يتحدث عن «التاوة»، الصحيفة دائرية الشكل من الحديد المنصوبة فوق الأثافي الثلاث. يصف هذا المشهد بتأمل كبير كيف تجلس الجدة، وكيف تُلقي الطحين فوق حرارة التاوة فيصبح خبزا طريا في أفواه أحفادها الجياع.
يكشف عن تفاصيل حكاية «الفرشة» حيث يلمس الرجل لأول مرة زوجته وحلاله، كأنك ترى «الفرشة» وهو يصفها ويصف أقمشتها الموشاة بخيوط الزري والمرايا. «في المرايا تنعكس قصص اللمس الأولى وحكايات الخوف من غريب صار فجأة زوجا»
الخضاب هو الحدث الأبهى والأجمل في الرواية. يحكي تفاصيله الصغيرة كأنه جالس إلى جوار هذه الجدة التي تمشي دوما بصحبة مخضبتها والإبرة. حيث لا يسقط من الخضاب خط واحد أو نقطة. تلتصق الصديقات بالعروس لحظة قدومها. «ركبة جدتي منضدة الخضاب» ، تضع العروس باطن يدها عليها. «ترسم بالإبرة خطين متوازيين عند نهاية أصول أصابع ظهر اليد، يعبران الكف عرضا وفي وسطه ترسم مُثلثا قاعدته خط الأصابع، فيه ترسم مُثلثا أصغر منه بقليل، وفي وسطه تضع نقطتين متعامدتين تجعلان فراغ المثلث واضحا..».
عندما قرأتُ فصلا كاملا من هذه الرواية يتحدث فيه الكاتب عن أدق تفاصيل وضع الخضاب، أدق طقوسه، وهو عادة طقس مُحرم على الرجال أن يكونوا طرفا فيه تفاجأتُ كثيرا؛ لأنّه يرسم صورة تفصيلية للخطوط، لحركة يد الخضابة؛ فهو كاتب يعرف هذه الأسرار الصغيرة للحناء، يعرف أنّ الخضابة في اليوم الثاني ستذهب لتفحص يد العروس وتضع طبقة جديدة عليه لتثبت اللون الغامق؛ يعرف أنّ العروس التي لا يغمق لون الحناء في يديها تقول عنها مريم أم عيسى: «العروس ما فيها دم، الحناء ما يحبها، لكن زوجها سيحبها كثيرا».
يحكي عن التفاصيل الدقيقة لتحضير «الكلّة» وهي عرش السرير بقماش أحمر شبه شفاف يتدلى إلى أسفل مرتبة السرير، حتى أنه لم يهمل الأغاني التي تغنيها النسوة للعروس.
يحكي عن العادات القديمة؛ إذ تطلب النساء من الخضابة أن تضع «نونو» في يد الأطفال ذكورا أو إناثا؛ لكي لا تتبعهم رائحة العروس فيدخلهم مرض أو علة كما كانوا يظنون. و«النونو» خطان متساويان متقاطعان في منتصفهما وعند كل زاوية من زواياهما الأربع نقطة. يحكي عن العروس التي تكسر البيض تحت أقدامها ويحاول الكاتب أن يوجد دلالة لذلك، «فحياة كل شيء تبدأ من بيضة»، ويسمون هذا اليوم «نسال العروس».
يقصُ علينا المحروس بحساسية عالية تلك اللحظة التي توضع فيها الغشوة على وجه العروس في انتظار أن يرفعها الزوج، وكأن الغشوة هي برزخ بين حياتين؛ كأن الغشوة شرنقة التحول من الطفولة إلى زمن الأنوثة الضاج باكتماله. يحكي عن تلك الحياة الخاصة حيث يلتقي كائنان لا يعرفان بعضهما البتة، فيبدأ كل شيء بالخوف والرجفة ثم كشف الوجه يليه الانكشاف الكلي. تفضح الرواية قصص الآباء الذين يتوارون عن الأنظار في أعراس بناتهم أو يحضرون مُنكسي الرؤوس خجلا. ليلتها يقول الرجال عنه أنّه «المغلوب»، بينما عندما يُزوج أولاده فهو «الغالب»؛ لأن الأب يرفض أن يرى ابنته حبة هيل يقرضها رجل في فمه.
هكذا تتناسل الرواية وتكبر، بكل هذا التماهي مع المكان والعادات والتقاليد. يسردها حسين المحروس من دون أن يقول موقفه الخاص منها بين رفضها أو قبولها. فهو يُعيدنا إلى ذلك الزمن لنعيشه لا ليُشكل لنا موقفه الخاص منه.
هنالك مساحة صغيرة جدا يتحدث فيها عن الرجال. عن ذاك الذي ترك زوجته بخضابها في أول العرس بحثا عن بريق اللؤلؤ في قاع البحر. وعن الذين فضلوا الصمت عندما ماتت زوجاتهم. عن كبار السن اللذين يتزوجون الفتيات الصغيرات، فتُبسط الجدة مريم عليهن مصاعب الحياة كأنها لا شيء.
يبقى أن نقول مجددا أنّ الكاتب رسم الشخصيات بدقة كبيرة من الخارج، ولكنه لم يُدخلنا إلى مشاعرها الجوانية. ترى بماذا كانت تشعر مريم وهي تُخضب أيدي البنات؟ ماذا كانت تتذكر في لحظات الصمت الطويلة تلك؟ وهي التي تقضي جلّ حياتها في التحضير للأفراح، فماذا عن فرحها الخاص. فرحها المفقود. يقول الراوي: «ما رأيتُ جدتي مريم تتحدث مع جدي كما يفعل الأجداد والجدات في هذا العمر. يلوذون ببعضهم يتحدثون متجاورين، متلاصقين، يستفز كل منهما الآخر في معركة صغيرة. ما رأيت جدي أيضا يقصدها في الكلام. يقول لها خبرا سريعا وهو يمشي مثلما يمشي الكلام. رأيتهما يتشاجران. يرمي حاجاتها خارجا فيدخلني خوف كثير» (ًص96).
لم يكن الكاتب معنيا بتطوير هذا التضاد في حياة مريم، بين إحباطها الشخصي والأفراح التي تصنعها للأخريات. كان منسجما أكثر بالتورط بقصص النساء، بالتورط بقصة والانسلال منها لقصة أخرى.
كما أن محاولة إدخال التاريخ وأحداث ما حدث عام 1975، عندما حلّت حكومة البحرين البرلمان لم تكن موفقة تماما. ربما هي محاولة لتأصيل فكرة السيرة، سيرة الخضاب والنساء والمكان الذي هو البحرين، ولكنها كانت نقلة طارئة على التفاصيل وعلى لغته الرشيقة التي كانت تتنامى فوق حكايات نساء يتشرنقن ليصبحن فراشات. طارئة على النظرة الشاعرية إلى الزمن الجميل المُتشابه خليجيا، والذي انطفأ وهج بساطته بشكل سريع ما إن انبثقت آبار النفط.
هكذا يستعيد حسين محروس جزءا من ذاكرته، ولنقل أنه الجزء الأجمل منها. الجزء المرتبط بالأفراح بالأعراس والخضاب. كأنه يقول عبر هذه الاستعادة، كم كانت الحياة أبسط وأحلى.