مسارات البوح واكتلام الحروف بين أصالة التراكيب وحداثية الرؤى (1 / 8)

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

 أ. د. مختار عطية

 

لا تزال القصيدة هي ذلك اللغز الذي تكتنفه غوائر الإبهام والغموض، وتتجاذبه منعرجات التوصيف والتفسير، وتخبو أمام سناه قواعد الناقد وعدته وآلياته مهما أوتي من رحابة الرؤية وسعة الاطلاع وموسوعية الثقافة وانضباط المنهج.

 

لقد استطاع الشاعر – أي شاعر – أن يرسم – وحده – أمارات شاعريته ومنعطفات رؤاه، وأن يصوغ ببرائق حروفه وألفاظه وجمله معانيه وصوره ملامح حسه وفيوضات مشاعره، قانعا بما سطرته يداه أو شطرته، غير عابئ – وهو محق – بما تتجاذب به نصوصه ألسنة النقاد مادحة أو قادحة.. حتى إذا ما استقر النص بين دفتين، وطرح في متاهات الرؤى استوقفته رؤية ناقد يطرح على مسامعه خاصة هنا وأخرى هناك، فيقر المبدع – حينئذٍ – بأن ثمة مصابيح حملتها سطوره وشطوره لم تضأ بعد. إذ يضع الناقد فتائل الزيت بها وإذا بالنص الذي سلم به صاحبه قبلا قد أحيط بومضات ثرة ما كانت لتتكشف له لولا أن تلقفتها يد خبير أعاد تذوق النص في إطار معرفي علمي ثقافي، وفي ضوء ما يطرحه النص – حال استنطاقه – من دلالات قد تخفى على غيره.

 

ولذا فكلما كررنا القول بأن المبدع والناقد شريكان في العمل الأدبي فلن يصيبنا الملل جراء هذا المكرور، لا سيما أن بكل نص مبدَع يتناوله ناقد خبير لشاهدًا على تلك الشركة مذ كان “إبداع” واكبه “نقد” وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

وإن كان النقد في تعاريف أسلافنا ومن تبعهم هو آلة المدح والقدح، فإنني كم جاهرت بحقي في مخالفة هذه الثوابت التي لاكتها الألسن حتى بدت بمثابة قرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار! ومن ثم فقد تكونت لي وجهة لا أظنها مخالفة للواقع أو جائرة عليه أو عابثة به، وجهة تكمن في كون النقد فنا، والفنون لا تعرف ذما ولا تسعى إلى قدح ولا تتصيد أخطاء ولا تتعمد إساءة؛ إذ إنها هياكل الجمال والإبداع والخير، ولا أظنها تستقيم مع نوازع الذم وتلصصات النقائص، فما خلقت الفنون لتكون معاول هدم، بل لتبقى كواهل بناء.

 

ولذا فالنقد عندي هو فنٌ مساقٌ في فنّ، فن متوغل في فن، فن كاشف لفن، مستجل لماهيته.. فلا مكان للسوءات مع هذه القيثارة المتناغمة التي اتخذت لها من الجمال نبراسا وديدنا.. ليس إلا الإعجاب والغبطة بما احتواه النص المبدَع من رؤى أتعبت صاحبها فوافقت توصيفا جيدا لدى الناقد.

 

أما هؤلاء الذين فهموا “فن النقد” على أنه تصيد وتربص بالمبدع، وينصِبون أنفسهم في إيجاد ضالتهم.. فإنهم إن وجدوها فلا بد أن ينتبهوا إلى أنهم – حينئذٍ – أمام نص لا يستأهل ضياع الوقت أو أن يتدنى إلأيه الناقد بفكره وثقافته ورؤاه مادام نصا قد أتاح له أن يمضي فيه سفيه ويحذ فيه مشارطه، بل الأجدى أن يتركه حتى ينضج أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

 

وأعترف – راضيا – أن بين يدي نصا شعريا استثارني من الغلاف إلى الغلاف، من العنوان والإهداء وحتى فهرس القصائد التي يحتضنها بين دفتيه؛ حيث رأيتني أما مدخل شعري جاد يستوعب أقدار الكلمات، ويراود تلابيب الجمل عن نفسها فلا تستعصم، ويستفرغ طاقات حية متجددة متواثبة جريئة لا تتوقف عند حد، ولا تتوارى خلف قعقعة تفتقد طحنا، وإنما تتخذ من مسارات البوح سبيلا لتضميد اكتلامات في إطار آخذٍ جمع بين أصالة التراكيب وحداثية الرؤى.. لذا كان عنوان هذه الدراسة: “مسارات البوح واكتلام الحروف .. بين أصالة التراكيب وحداثية الرؤى”.

 

وقد ركزنا على مسارات البوح في ضوء اكتلام الحروف من منطلق كونه – أي البوح – الخطاب الشعري السائد في الديوان؛ إذ أصرت الشاعرة على مفرد البوح مجهورا به في بنياته المتعددة عشر مرات، إحداها بتوظيف فعل الأمر في قولها من قصيدة “همسا يبوح اللازورد” إذ تقول في ختام القصيدة: “وبالشوق بح يا مناي وأسهب”.

 

وأخرى بتوظيف فعل المضارع في قولها من قصيدة “مدد يا رحيم” إذ تقول: “تبوح بمخبوء صدري”. ثم وظفت البوح مصدرا في المواضع الثمانية الباقية على النحو الآتي:

 

1- قولها من قصيدة “همسا يبوح اللازورد”: (فجئت ضمادة بوح).

 

2- قولها من القصيدة ذاتها: (بخفقة بوحك).

 

3- قولها من قصيدة “عندما يظمأ الجبين”: (تعانق بوح النسيم).

 

4- قولها من قصيدة “ظبية في شراك الحب”: (رحيق بوحك).

 

5- عنوان قصيدتها “نون البوح”.

 

6- قولها من قصيدة “نون البوح”: (أرخت جدائل بوحها).

 

7- قولها من القصيدة ذاتها: (سر نون البوح).

 

8- قولها من القصيدة ذاتها: (يا سر نون البوح).

 

وإذ تتناول الدراسة مسارات البوح فإنها لا تتوقف عند أصالة التراكيب فحسب لئلا تكون جائرة على الوجهة الحداثية المعاصرة التي تبدت الشاعرة من خلالها، كما أنها لم تشغَل بهذه الوجهة غير كاشفة عن ثقافة الشاعرة التي تلوح لنا في كل جملة واردة بقصائد الديوان.

 

وليكن البدء بالعنوان.. ذلك الذي ضم تحت طياته قصائد الديوان وإن كان عنوانا لإحداها.. فنحن أمام تركيب لفظي صيغ بكلمات ثلاث “قلبي وإرث الأمتعة” شارك الأولى والثانية منها حرف عطف هو “الواو” ذلك اللزيم اللغوي الذي يجمع – غالبا – بين المتآلفيْن، كما يجمع – نادرا – بين المتنافريْن، لتضعنا في هذه الصياغة الجملية أمام ومضة تتجاذبها أربعة مفاهيم؛

 

أولها: مجيء “القلب” خبرا محذوف المبتدأ ليطرح وصف العنوان للديوان كله “قلبي وإرث الأمتعة”.

 

ثانيها: مجيء “القلب” مبتدأ محذوف الخبر ليطرح العنوان ذلك التلازم بين القلب وإرثه أو إرثها “قلبي وإرث الأمتعة”.

 

ثالثها: ما تعكسه “الواو” من بين وظائفها بالعطف الذي يعكس علاقة القلب بالإرث.

 

رابعها: ما تعكسه “الواو” من بين وظائفها بالمعية التي قد تؤدي إلى جانب مدلول “مع” معنى “عليه” حال إقرارنا بإنابة الحروف بعضها عن بعض، كما يقال “قلب عليك”.

 

ومع هذا الفهم المتسع الذي عمدت الشاعرة أن تلقي بنا في غمراته منذ البداية ليس أمامنا – إذن – إلا أن نقر بأن لغزا مقصودا قد احتواه العنوان، ذلك العنوان المصدر بهذا الكائن اللغز “القلب” الذي يلفت بوقعه الكلمي القارئ لأول وهلة.. ولا غرو، فهو سر الحياة ومحركها، وهو مقر الرضا والسخط والتدلل والتجهم، وهو مستقر حب طاغ جامح تتوارى معه نغصات البغض، وهو أيضا مقر كره طارئ لا يستطيع الإنسان الانفكاك عنه.

 

وقد أضيف إلى ياء المتكلم لتؤكد الشاعرة على خصوصيةٍ أرادت إبرازها، وألحت عليها في الديوان كله، ثم تتبع ذلك بلفظين أولهما مضاف، والثاني مضاف إليه “إرث الأمتعة”، وقد جاء اللفظ الأول مصدرا والثاني جمعًا لتؤكد من خلال المصدر على جُمَّاع امتلاكها لهذا الميراث، ولتؤكد من خلال الجمع على كثرة المتاع الموروث وتعدده وتنوعه وتشتته واختلاف أشكاله وهيئاته.

 

فهل يا ترى.. يمكن أن تسهم هذه الدلالات التي يحملها العنوان في استكناه رؤى الإبداع في الديوان؟ أم أنه مجرد عنوان انتقته الشاعرة من بين خيارات مطروحة أمام ناظريها لتنتقي من خلالها عنوانا لديوانها، غير ملتفتة إلى ما حمَّلتناه من دلالات ثرة استوقفتنا – رغما عنا – قبل أن نسبح معها بين أمواج القصيد؟!

 

ونترك العنوان إلى “الإهداء”، ذلك المفتاح الذي يسهم في إنارة الناقد لينير النص، وهو بذلك يكشف جانبا غير منكور من شخصية المبدع، وفي الوقت ذاته يمكِّننا –مع وجازته – من إحصاء كلماته على أصابع اليدين، إلا أنه يعكس: ماذا يقدم المبعد لمن يحب؟ ومن هو ذلك المهدَى الذي حاز رضاه، وآثره على غيره حتى حمل إليه خلاصة فنه ونبض قلبه، حتى لو كان جمادًا لا يحس.

 

وقد ورد الإهداء هنا مصدرا بحرف الجر “إلى” الذي يحمل فوق حروفه الثلاثة سائر محتويات الديوان بعد أن تقلب صفحته، ثم يمضي حرف الجر هامسا مساقا إلى ذلك الاسم الذي اعتصرت من حروف اسميته دلالات صفته، فنسبته إليها بياء النسب “إلى صلاحي” لتومئ بذلك إلى أنها اتخذت من اسم المهدَى صفة احتوتها حتى استوجبت النسبة إليها.. ورغبة منها في دفع اللبس وتقريب المسافة بين الاسم والصفة أردفته بصفة توضح ماهية ذلك الاسم “شريك” بما تحمله هذه اللفظة من دلالة مباشرة على “الزوج”، لاسيما إذا كانت هذه الشركة غير متعلقة بمال أو أعمال، وإنما تعلقت بشركة “الحزن” مفردًا، و”الأفراح” جمعا.. إنه ذلك الحرف “المخاتل” في قاموسها، يراوغها أثناء المخاض عند ميلاد القصيد، ثم لا يلبث أن ينصاع ساكنًا عماد القصيدة، ملتحفا بها، غارقا بفحواها:

 

“إلى صلاحي..

 

شريك حزني وأفراحي..

 

ذلك الحرف المخاتل من حروف لغتي..

 

يراوغني أثناء الكتابة،

 

ثم يسكن عماد القصيدة”.

 

المصدر: ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى