مسوّدات لفيلم سوري طويل

الجسرة الثقافية الالكترونية-العربي الجديد-
*عروة المقداد
كُنت أتمنى زيارةَ هوليوود يوماً ما. “قَليلٌ عليَّ أن أكونَ مخرجاً لبلدي، ينبغي أن أكونَ مخرجاً لكلِّ العالم” هذه ليست سُخرية كما هو مطبوعٌ في ذاكرتكم؛ ولكن لكلٍّ مِنّا أناهُ وطفولتهُ التي أقنعهُ فيها والداه أنهُ أفضلُ طفلٍ في العالم. كُنت سأكون عالم ذرة، لا أعرف لماذا، لكنّني لسببٍ ما تحولتُ إلى مخرج! يقولُ لي والدي حِين انقلبَ على مفهومهِ “بأنني أفضلُ طفلٍ في العالم” وتحوّلت إلى أسوأهم: “من قلّة الجِمال سرجنا الأعور قِيدة” (قائد). حسناً ربما ينطبقُ عليَّ ذلك المثل؛ فقد قالها حشدُ المخرجين الضالين في أصقاعِ الأرض عَقبَ اندلاع الثورة.
محاولة فيلم 1
ولكنَّ القدرَ منحني شيئاً آخرَ، دفعني إلى أكبر إستوديو في العالم، حيث تَتكوّم الأبنيةُ فوق بعضِها بترتيبٍ تراجيديٍّ. كلُّ تفصيلٍ يصلحُ لأن يكونَ لقطةً وفقاً لمدرسة المخرج: الدمُ المختلطُ بالصور، اللعبةُ التي تحتضنها يدُ الطفلة الممزقة، الوجوه المرمّدة المكسوّة بظلِّ الموت على الوجه، حيثُ لا يستطيع أفضل “ماكيير” في العالم أن يُقاربه. الخط الطويل من الأبنيةِ المرصوفةِ فوق بعضها لتعطي تشكيلاً سوريالياً عن عبثيةِ الحرب. سأنصح ستيفن سبيلبرغ أن يُصوّرَ الجزء الثاني من فيلمه الشهير “إنقاذ الجندي ريان” هنا في حي “طريق الباب”. كلُّ شيءٍ مكتملٌ باستثناء البطل الأميركي الذي سيحرّر السوريين، لذا سأنصحهُ بتغيير اسم الفيلم ليكون: “إنقاذ الأخ عبد الله”.
محاولة فيلم 2
أمشي في طريقِ الباب إلى الشعار، وأعرّجُ على كرم الجبل. تنكسرُ الشمس على ذرا الأبنيةِ المتداعية، وتصفرُ الجبهات بهدوءٍ مرعب، وترتعش وجوه المرابطين وتنحدر ذقونهم شعثاء بسخرية حادة، وتتكوّر أعينهم بحثاً عن شيء ما في عدم القتال. وتتمسك سِحنهم العابسة بالسبب الذي يبقيهم على قيد الحياة، فتفترُّ ألسنتهم بدعاءٍ كلغةٍ غيرِ مفهومةٍ بينهم وبين الله.. كم يشبه ذلك رومانسية فيلم “خط أحمر رفيع”. أستطيع أن أنظر من خلال خيوط الضوء وأخاطبَ الله، حيث البرتقالي يغشى البيوت والأنفاس الغضّة التي ما زالت مرشومة على الحيطان، والصور الممزقة وبقايا الألعاب والحصى الذي يعفر وجه الذكريات الحميمة.. لن أسأل السماء على طريقة بطل الفيلم “من أين يأتي كلّ هذا الضوء”، سأقول: من أين تأتي كلُّ هذه البراميل؟
محاولة فيلم 3
أتأمّلُ الوجوه المتداعية كالطوب في أحياءِ المدينة، حدقةَ الحياة الباهتة التي تميزهم عن الأموات، وأقول ربما يصلح ما أرى عنوان فيلم؛ “قتلَة بالفطرة”. وأتذكر السنين المنصرمة وأسأل: من أين تأتي رغبةُ القتل تلك؟ من أين نأتي بكلّ القدرة على ارتكاب البشاعة؟ وعلى الرغم من أن هذا “الفيلم” برعاية غربية وأممية، إلا أنّ جميع العاملين فيه سوريون! لكنني لست أوليفر ستون، ربما أنا أكثرُ شاعريةً منه، لذا أميلُ أثناءَ مروري بجبهة سيف الدولة إلى تذكّر الفيلم الفرنسي “ميلاد سعيد”، وأتمنى أن يرتاح المحاربون ليلةً.. ليلةً واحدةً فقط، ليلةَ الميلاد، أو ربما أيّة ليلة يختارونها، ليحتفل الطرفان وينسَوا الحرب.
محاولة فيلم 4
لكنها ليست حرباً بالنسبة لي. ولم تكن كذلك.. هي ثورةٌ خانها معظم أبطالها. لذا سأرغب بالانتقام الشديد عندما أمرّ بالجثث المتفحمة، بعد أن جمد عقلي من صفير البرميل الأول الذي هدمَ طبقات السماء والوعي. وسأقول حينها على طريقة ترنتينو في فيلم “اقتل بيل”: “الانتقام وجبة تقدَّم على طبق بارد”.
محاولة حياة 0
ولكنني أركض، فالصفير الثاني للبرميل يلسع روحي، يذر الخدرَ في دماغي، فتضيع أشكال اللغة وأدواتها، وأرتدّ طفلاً صغيراً لا رغبة له في أن يكون أفضل طفلٍ في العالم، ولا عالمَ ذرّة، ولا مخرجاً ملهماً، بل طفلاً معلقاً بثوب أمه التي تلفح ورودُه وجهَه، فتحتضنُه لتحميه وتمنحَه نفحة حياة جديدة.
يسيخ الهواء ذائباً مع نقي الخوف والركام، أرفع رأسي بعد أن همدت قطعة الحديد، فأتذكّر أنني مجرد كومبارس، ينتظر منذ أربع سنوات المحرِّر والمخلِّص. ولم يسعفنا كل أولئك المخرجين المحترفين الذين أبدعوا في ابتكار القتل، بسيناريو واحد لنهاية واضحة لهذا الفيلم الطويل.