مشروعات التنوير تعود إلى نقطة الصفر

الجسرة الثقافية الالكترونية-الخليج-

كان المناخ الفكري والثقافي في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي صحياً، تتوافر فيه الأركان التي تدعم حرية الرأي والتعبير، أولى أدوات النهضة والتنوير، فبقدر ما كان هناك كاتب جسور، يبحث في أسباب التخلف الفكري والاجتماعي، ومن ثم يقدم مقترحاته للنهوض، كان هناك حق الاختلاف، الذي يمنح صاحبه الحرية في أن يفند ما يراه مخالفاً لقناعاته، سالكاً الطريق ذاته: الرد كتابة على ما يختلف معه، وحين تتدخل السياسة في أطراف المعادلة يكون الطريق الأقرب هو بلاغ للنائب العام أو نقاش تحت قبة البرلمان، وهنا يظهر العنصر الثالث في القضية، وهو توافر وكيل للنائب العام يتمتع بأفق مفتوح .

هذه الأركان الثلاثة توافرت في قضية “في الشعر الجاهلي” لطه حسين، حين اختتم “محمد نور” رئيس نيابة مصر، تحقيقاته مع عميد الأدب العربي بقوله: “وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده بأن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إدارياً” .

كان ذلك في العام ،1927 ودخل محمد نور رئيس النيابة الدرس الأدبي من باب التنوير، لنشهد فيما بعد في ثمانينات وتسعينات نهاية القرن الماضي حالة ذعر من الكتاب، فيصدر أحد القضاة أحكاماً بمصادرة “ألف ليلة وليلة” وإن جاء بعد ذلك من يبرئ الكتاب (المستشار سيد يوسف) بقوله: “إن مؤلف “ألف ليلة وليلة” كان مصدراً للعديد من الأعمال الفنية الرائعة، ومنه استقى كبار الأدباء في العالم عامة، والعربي منه خاصة، روائعهم الأدبية، الأمر الذي ينفي عنه مظنة إثارة الشهوانية لدى قرائه، إلا من كان منهم مريضاً تافهاً، وهو ما لا يحسب له حساب، عند تقييم قيمة تلك المطبوعات الأدبية” .

ويؤكد رئيس المحكمة أنه لم يثبت أن الكتاب كان وراءه إفساد للنشء، موضحا أنه “من التراث الشعبي، باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة” كان ذلك في العام ،1986 وهكذا تمت تبرئة “ألف ليلة وليلة”، لكن العام 1990 لم يمض إلا وقد صدر حكم بالحبس ضد الروائي “علاء حامد”، الذي أصدر كتاب “مسافة في عقل رجل” ورواية “الفراش”، رأى القاضي أنها تدعو إلى “فساد الأخلاق وتستهزئ بقيم المجتمع”، واستمرارا لهذه السلسلة من الأحكام صدر حكم ضد القاص “كرم صابر” بالحبس خمس سنوات في العام الجاري، قبل ذلك بسنوات صودر كتاب “فقه اللغة العربية” للدكتور لويس عوض، ورواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، ومنعت “الخبز الحافي” لمحمد شكري و”موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح من التدريس في الجامعة الأمريكية، وتحت قبة البرلمان كانت “الفتوحات المكية” لابن عربي مطلوبة للمصادرة .

تطورت آليات العلاقة بين الكاتب والمصادرة بصدور أحكام مثل التفريق بين الزوج وزوجه (نصر حامد أبو زيد وابتهال يونس) لكن الأكثر فداحة أطل برأسه، مع تشعب تيارات التكفير وتغولها، فنصب المنتمون إليها من أنفسهم قضاة وجلادين، وأصدروا حكماً بتصفية الكاتب فرج فودة، في أعقاب مناظرة شهيرة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، جرت وقائعها بينه وبين الشيخ محمد الغزالي (صاحب التقرير الأول الداعي لمصادرة “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ) ومحمد سليم العوا، وصدرت المناظرة في كتاب امتلأ بالتحريف لآراء فرج فودة، وكانت النتيجة أن كمن له صبيان، على دراجة بخارية في أحد شوارع القاهرة، وحين رأياه نازلا من مكتبه ليلا، أمطرا جسده بالرصاص، وفي جلسة محاكمتهما أبى الشيخ الغزالي أن يفارق مسرح الأحداث، فأدلى في شهادته بالمحكمة ب “كفر فرج فودة” وكانت معركة الكلمة في مواجهة الرصاص .

لم يقرأ القاتلان حرفا لفرج فودة، مثلما لم يقرأ آخران ينتميان إلى التيار التكفيري ذاته “أولاد حارتنا”، قبل أن يصدرا حكمهما بالشروع في قتل نجيب محفوظ، في العام ،1994 في محاولة اغتيال فاشلة نجا منها الكاتب الكبير، لكنها تركت أثراً كبيراً فيه، جعله يملي آخر كتبه “أحلام فترة النقاهة” .

عودة إلى طه حسين فإن “د . وفاء السلاوي” في كتابها “الكتب الممنوعة بين الإبداع والمحاكم”، تشير إلى أن طه حسين “سعى عبر كتاباته إلى خلخلة المعرفة التقليدية في المجتمع المصري بالثورة ضد الجمود الفكري والعلمي في قراءة التراث العربي والأحكام الثابتة التي سادت لمدة طويلة” .

استعان طه حسين بمنهج الشك في بحثه، محاولا التخلي عن التصورات والنتائج القبلية، التي ألصقت بالشعر الجاهلي، وتوصل إلى أن معظم هذا الشعر منتحل، لكن القضايا التي أثارها في الكتاب كانت سببا في اتهامه بتجاوز حدود الدراسة الأدبية والمس بالمقدسات الدينية، وهو ما شكل محور العديد من البلاغات، وأثار قضية كبرى شغلت الرأي العام، وانتهت ببلاغات في النيابة، حفظها محمد نور إدارياً كما أشرنا .

قبل واقعة طه حسين، تحديدا في العام ،1925 كان حكم بتجريد الشيخ الشاب علي عبدالرازق من شهاداته العلمية وطرده من وظيفته، وإخراجه من زمرة العلماء، قد صدر بعد جلسة واحدة، وكانت التهمة تأليفه كتاب “الإسلام وأصول الحكم” .

كان الغائب في هذه القضية هو ما قام به كمال أتاتورك عام 1924 بإلغاء الخلافة العثمانية، وكان الملك فؤاد طامحاً في أن يكون “خليفة المسلمين”، وهنا ظهر الشاب علي عبد الرازق (1888 1966) ليسأل: هل الخلافة أصل من الدين الإسلامي؟ وينفي أن تكون ضرورية للدفاع عن الإسلام، لأن دين الله لا يحتاج إلى خليفة يدافع عنه، وأن القرآن لم يحدد شكلاً معيناً للحكومة .

كان الشيخ محمد رشيد رضا أول من حرّض ضد الشيخ علي عبد الرازق قائلا: “لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه، لئلا يقول هو وأنصاره إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه” وأن “الكتاب هو آخر محاولة يقوم بها أعداء الإسلام لإضعاف هذا الدين وتجزئته من الداخل”، ولم يعدم الكتاب من يدافع عنه مثل محمد حسين هيكل ومنصور فهمي والمازني وطه حسين ومحمود عزمي، لكن المخيب للآمال هو ما نقله الدكتور غالي شكري في كتابه “النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث”عن سعد زغلول، إذ كتب أن زعيم الأمة قال: “وما قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ “علي” من زمرتهم إلا قرار صحيح، لا عيب فيه، لأن لهم حقا صريحا بمقتضى القانون أو بمقتضى العقل والمنطق أن يخرجوا من يخرج على أنظمتهم من حظيرتهم، فذلك أمر لا علاقة له مطلقاً بحرية الرأي التي تعنيها السياسة” .

كانت القضية لها علاقة بالصراعات السياسية، أكثر من كونها قضية رأي، فالقانون الذي قضى بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء كان يقصد معاقبة صاحب “السلوك الشائن، وليس الخطأ في الرأي” .

من ناحية أخرى، فإن من يؤرخون لقضايا المرأة يتجاهلون الدور الذي قام به رفاعة الطهطاوي، وله كتاب شهير في هذا الصدد: “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين” لتقتصر الضربة الأولى على كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين الذي أثار ضجة كبرى إبان صدوره عام ،1899 فنسب غير واحد الكتاب إلى الإمام محمد عبده، على اعتبار أن مجلة “المنار” هي أول من دافع عنه، وأن الإمام امتنع عن إجابة الفتاوى المطلوبة بخصوصه، إضافة إلى التقاط أساليب خاصة بالإمام في الكتاب .

كان قاسم أمين يرى أن الإسلام ليس سبباً في تدهور أحوال المسلمين، واتخذ من قضية المرأة زاوية جديدة لرؤية الانحطاط، وقد تعرض المؤلف الشاب الذي كان يعمل وكيلاً للنائب العام لمشكلات كثيرة، وصلت إلى باب بيته، وكان اللافت أن كتاب قاسم أمين لم يدع إلى السفور، بل كان يريد الحجاب الشرعي، بأن تكشف المرأة وجهها وكفيها، ولم يدع إلى التعليم الكامل للمرأة، بل بالحد الأدنى منه، ولم يطالب بأن تشتغل بالحياة العامة .

وفي العام 1947 تعرض الكاتب محمد أحمد خلف الله لأزمة شبيهة بما جرى مع نصر حامد أبو زيد قرب نهايات القرن الماضي، فقد تقدم خلف الله لمناقشة رسالة الماجستير بدراسة عنوانها “القصص الفني في القرآن” تحت إشراف أستاذه الشيخ أمين الخولي، وقد منع الباحث آنذاك من مناقشة الرسالة، وأجرى المجلس الأعلى للاتحاد العام للهيئات الإسلامية تحقيقا معه ومع الشيخ الخولي .

لكن الدراما وصلت إلى ذروتها في قضية نصر حامد أبو زيد، الذي تقدم للترقية في الجامعة بكتابيه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية” و”مفهوم النص . . دراسة في علوم القرآن”، وكان بطل الواقعة هو الدكتور عبدالصبور شاهين، الذي كتب تقريرا ضد “مفهوم النص”، يؤكد فيه أن الكتاب “ينطوي على كثير مما رآه العلماء كفراً يخرج صاحبه عن الإسلام”، وبناء على ذلك يرفع أحد المحامين دعوى حسبة تطالب بالتفريق بين نصر أبي زيد وزوجه، ثم تدور الدوائر حين يكتب عبد الصبور شاهين كتابه “أبي آدم” عن قصة الخلق، ويطالب البعض باستتابته عن الأفكار التي وردت في الكتاب .

بعد هذه السنوات من المعارك الفكرية وملاحقات الكتب، يمكن أن نقف أمام ما كتبه غالي شكري، عن معركة “في الشعر الجاهلي”، لنعرف أين نقف؟ يقول: “كانت تلك أمجد معارك النهضة المصرية وآخرها، انتصر فيها البرلمان والقضاء لحرية الفكر والتعبير، وانتصر أيضاً المجتمع المتخلف” إنها نقطة الصفر إذن، فلنبحث عن لحظة تنوير حقيقية، تراكم على البدايات، لتضيء لنا المستقبل . 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى