مشهد الفن المعاصر كما تقدمه اسطنبول

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

مهى سلطان

 

لا يمكن الفصل بين المشهد السياحي والمشهد الفني لمدينة اسطنبول، كلاهما وجهان لعملة واحدة، فالمدينة هي قبلة أنظار السياح من أنحاء العالم، وهي تتفوق على سواها بالنسبة للبنانيين الذين يقصدونها بلا تأشيرة دخول. هكذا تكتشف دوماً أنك متأخر في حجز مقعدك على الطائرة أو غرفة في الفندق عبر مكاتب السفريات بعروضاتها التي لا تحصى، إلى الأماكن السياحية في تركيا، ثم تكتشف أن الدليل السياحي هناك يتقن العربية مثلك، وإلا فالانكليزية هي اللغة الأكثر تداولاً بعد اللغة الأم.

تُعد اسطنبول أكبر المدن في تركيا وثاني أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان، يُنظر إليها على أنها مركز تركيا الثقافي والاقتصادي والمالي. تقع على مضيق البوسفور وتطوق المرفأ الطبيعي المعروف باسم «القرن الذهبي» الواقع في شمال غرب البلاد. تمتد المدينة على طول الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور، المعروف باسم «تراقيا»، والجانب الآسيوي أو «الأناضول»، وبالتالي فإنها المدينة الوحيدة في العالم التي تقع على قارتين. تكاد تكون هذه المدينة تحفة أسطورية بجمالها الأخاذ، بقبابها ومآذنها السامقة ومساحاتها الخضراء وجسورها المعلقة وقصورها الفخمة. عاصمةٌ عريقة لعدد من الدول والإمبراطوريات، أحيطت عبر تاريخها الطويل بهالة من القداسة، فكانت مدينة مهمة للمسيحيين بعد أن اعتنقت الإمبراطورية البيزنطية الدين المسيحي، قبل أن تتحول لتصبح عاصمة الخلافة الإسلامية من عام 1517 حتى انحلال الدولة العثمانية عام 1924.

أفق اسطنبول كما يراه الناظر من جهة التقاء البوسفور وبحر مرمرة، يظهر عدَّة معالم رئيسيَّة مثل جامع السُلطان أحمد وآيا صوفيا وقصر طوب قابي وقصر دولمة بهجة. أما المنظر العام لمنطقة «التقسيم» في اسطنبول، فهو يُظهر المباني المُشادة وفق النمط المعماري التراثي. وهي موقع انصهار الثقافات والأعراق المختلفة، لذا هي زاخرة بالمساجد والكنائس والمعابد والقصور والقلاع والأبراج التاريخية التي تمّ بناؤها في أزمان مختلفة، حتى أصبحت تُشكل رمزاً مهماً للمدينة.

لعل ميزة انفتاح اسطنبول على العالم الأوروبي، لاسيما بعد اختيارها عاصمة مشتركة للثقافة الأوروبية لعام 2010، أنه أوجد سوقاً للفن وحركة نشطة للغاليريات والمعارض الفنية، وقد أحصت صحيفة الغارديان عشرة من أهم غاليريات الفن المعاصر في اسطنبول، من بينها غاراج وأرتير في شارع الاستقلال وغاليري نيف Nev في أنقرة، أما «اسطنبول مودرن»، فهي من أكبر قاعات العرض المخصصة للفن المعاصر، تطل على البوسفور، وتنعقد في أرجائها فاعليات البينالي، تحتوي على قاعات تعرّف بتاريخ الفن التركي الحديث كما تستقبل معارض ذات طابع دولي ولها اهتمامات خاصة بالمعارض الفوتوغرافية، وغاليري منع Manâ التي تهتم بالفنانين الأتراك الصاعدين والمشاهير من المحدثين وهي على صلة ببروكلين وبرلين، وغاليري روديو Rodeo التي تستقبل فنانين من تركيا واليونان فضلاً عن فنانين عالميين، وتتميز غاليريست Galerist ببنائها التاريخي الجميل الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، بالقرب من بيوغلو، تستخدم أيضاً كمكان للترفيه وتعرض في شكل خاص لرسامي الواقعية الجديدة في فن البورتريه، من طراز التركي تانر سيلان، وبيرا ميوزم وسنترال اسطنبول ويابي كولتور مركزي Yapi Kredi Kültür Merkezi، كلها تتميز بطابع محلي تجتذب الذواقة من المهتمين بالفن المعاصر بوجه خاص التصوير الفوتوغرافي وفن التجهيز.

بعيداً من صالات العرض التجارية، يعتبر متحف الفن الحديث في اسطنبول من أبرز معالم الفن الحديث والمعاصر معاً، دشن عام 2004 في تركيا القديمة في حي توبهاني Tophane الذي يضم بعض روائع الأبنية التي شيدها المعمار سنان. يبتغي المتحف التعريف بالفن التركي المعاصر، يتولى إدارته لوفان زاليكوغلو levant ҫalikoglu الذي منحه صفة المتاحف الدولية وأدخله في قائمة المتاحف العالمية، تتكون مجموعته الدائمة من أعمال فنانين أتراك في الحقبة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر إلى عصرنا الحالي. وقد جاء ثمرة نجاح بينالي اسطنبول الذي تنظمه مؤسسة الثقافة والفنون منذ العام 1987. يشكل المتحف حلقة في سلسلة المتاحف المقامة على ضفاف البوسفور، أبرزها متحف الفنون الجميلة الذي يتضمن لوحات من القرن التاسع عشر وروائع فن الخط العربي (افتتح عام 2002) ومتحف الفنون الإسلامية في قصر إبراهيم باشا (وزير السلطان سليمان القانوني) ويتضمن 40 ألف قطعة تعود إلى ما بين القرن الثامن والقرن التاسع عشر، فضلاً عن سلسلة من الغاليريات التي ولدت في حيّ نيزانتازيه Nisantasé ومشقه Machka ، والمتاحف الخاصة للفن المعاصر وأبرزها Elgis Museum of contemporary art.

اسطنبول الحديثة إذاً هي عنوان جديد للفن المعاصر، وموئل للنقاش حول الفن ضمن قضايا إنسانية تعبر عن محطات مفصلية تتجاوز الحدود الجغرافية باتجاه القضايا المقلقة التي تساور الفنانين على امتداد القارة الأوروبية. والمعرض الضخم الذي يقام حالياً في متحف الفن الحديث في اسطنبول، بعنوان «الفنانون في أوقاتهم» شعاره مستلهم من عبارة المفكر والكاتب التركي أحمد حمدي تانبينار Tanpinar (1901- 1962) قوله: «لستُ داخل الوقت ولكني لا أدّعي أني تماماً خارجه»، هذا القول بالمعنى التجاوزي للأزمنة كان ملهماً لمجموعة كبيرة من الفنانين بلغ عددهم 115 فناناً من تركيا ومختلف البلدان الأوروبية والأميركية، تطرقوا إلى الوقت كماضٍ وحاضر معقود على رؤى مستقبلية. فالوقت عنصر نسبي من عناصر الداخل العميق، والأعمال جاءت لتطرح الأسئلة المتعلقة بالحروب والهجرات والمدن وطرائق العيش والمبتذل والجميل، كما لتواجه الزائل والمتغير ضمن النقاش حول الأزمنة وكينونة الحياة نفسها.

تبدو القطعة المركزية في المعرض لفنان تركي من رواد المعاصرة يُدعى حسين بحري ألبتكين (1957- 2007) الذي لطالما تعامل مع الحدث من خلال استراتيجيات جديدة من التفاعل مع قدرية التاريخ الذي يشبه حصاناً بلا بطل. على أن استكشاف ألبتكين للعولمة جاء من خلال الآثار التاريخية، السفر والمكان، الذاكرة والوقت. وتتكون تجهيزاته من طريقة العثور عليها والبنود التي جاءت من تكرارها، بموجب مواد بحثية يتم تشكيلها كروايات بصرية. فقد استوحى في تجهيزاته لافتات الفنادق وعباراتها، مستخدماً خامات رخيصىة وبراقة مثل الباييت paillette الملون الذي يتكون منه عمل «Tremor Rumour Hoover»، ويفيد ما معناه «الهزة/ الشائعة/ النكتة» عبارات هي جزء من مذكرات كتبها ألبتكين بعد زلزال عام 1999، مع رغبة الفنان بالهروب من المدينة (بحر رجفة/ أسود رجفة/ هوفر الماء) لتطهير النفس. وكان حسين بحري ألبتكين شارك في عدة فاعليات فنية مثل بينالي البندقية واسطنبول وساو باولو، وعرضت أعماله في مساحات فنية مركزية مثل تيت مودرن في لندن، وSALT في اسطنبول وكونستالي في كاسل (ألمانيا).

ثمة عمل جداري للعملاق الألماني انسليم كيفر (1945) الذي يعيش في فرنسا منذ العام 1993 حيث انطلقت شهرته كفنان معاصر، عرفت أعماله بقوة دفقها التعبيري وضخامتها وملامسها الخشنة النافرة، فهي زاخرة بتراكمية المواد والرمال وأوراق الأشجار والمعادن. هذه الخامات التي تجعله يتلمس أحاسيسه إزاء التاريخ ويحي ذكريات المآسي التاريخية للحروب، قوله:» التاريخ بالنسبة لي هو مادة مثل المنظر الطبيعي واللون». أما الألماني الثاني الذي يوازيه بالشهرة والتداول فهو جورج بازيليتز (1938) الذي عاش مخاض الانقسامات بين برلين الشرقية والغربية. في المعرض نماذج من أعماله المعروفة برسم الشخوص مقلوبة، وتلك الوضعية استوحاها بازيليتز من لوحة سوتين «البقرة المقلوبة». بدأت شهرته في معارض الدوكومنتا، ثم تطور أسلوبه باتجاه تدمير المادة بحثاً عن أنفاس الحياة المنبثقة من حطامها. أما مورات جيرمان فهو فنان تركي يستخدم الصورة الفوتوغرافية كوسيلة للتعبير عن مفارقات الحياة العصرية. في سلسلته المعروفة بعنوان «تحولات اسطنبول» ثمة صراع بين القديم والحديث يتمثل في ناطحات تكاد تهوي تحت وطأة التسابق المعماري لاقتحام الفضاء. ويُعتبر ساهين كاياغون من رواد الأتراك الذين طوروا وسائل ثقافة الصورة، فقد دمج بين العناصر البصرية للصورة وتكاوين الواقعية الجديدة السائدة في الفن المعاصر. يقول :»أنا لا ألتقط الصورة، بل أصنعها. فكل صورة هي لي مشهد من خفايا الحياة».

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى