«مصائد النسيان» تناور على المألوف

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد الدائم السلامي
بعد نَشْرِه مجموعته الشعرية «رعشات من رصيف الانتظار» عام 2012، أصدر المغربي بوشعيب عطران (مواليد مدينة الجديدة 1963) مجموعته القصصية «مصائد النسيان» (دار سليكي إخوان -طنجة 2014)، وضمّت قصصاً قصيرة منها «طريق النسيان» و»لوحة» و»إغراء» و»مشاهد من ليلة عابرة» و»سفر» و»أحلام مجهضة» و»ليلة حافية» و»ضجيج الصمت».
لا تحفل «مصائد النسيان» بنظريات القصّ القصير وثخانة أفهوماته النقدية التي ارتهنت إليها بعض الكتابات وفقدت بسببها وَهجها الإبداعي، وإنما نلفيها تُعوّل على جهدها التخييليّ الخاص وعلى إخلاصها للمعيش اليومي المغربي لتصنع حدثها السردي صناعة لا يعدم القارئُ اتكاءَها على لُغة حَكّاءة عرفت كيف تُناور المألوف الواقعيّ لتتسرّب من شقوق هشاشته إلى ما يتقرّح في داخله من جروح اجتماعية وثقافية وسياسية وحضارية نرى فيها حاضنة سردية يجوز توصيفها بـ»الصعب الممكن» الذي انصبّ عليه جهد الكاتب ودخل معه في مواجهة إبداعية نازعة إلى إزعاج طمأنينة تصوّرات الأحياء عن حال الأشياء من حولهم.
وظيفة العنوان
ولعلّ من ميزات السرد في قصص «مصائد النسيان» أنه راهن على وظيفة العنوان وحمولته الإيحائيّة في وخز رغبة المتلقّي لحفزه على تجريب حَدَث القراءة بالتوغّل في المتن الحكائي مُحمَّلاً بانتظارات هي من فعل السرد لدى بوشعيب عطران جوهرُه؛ ذلك أنّ عناوين القصص جاءت في شكل قدّاحات سردية صورتُها مبتدآتٌ وردت إمّا لفظةً مفردة (لوحة- إغراء- سفر) وإمّا مركَّباتٍ نعتية (أحلام مجهضة- ليلة حافية- هواجس متمرّدة) أو مركَّبات إضافية (ضجيج الصمت – حديث الريح – رحلة التيه)، ومتى ذهبنا مذهبَ سيبويهَ وقلنا قولَه إنّ «المبتدأ كلّ اسم ابتُدئ به ليُبْنَى عليه كلامٌ» وعضدناه بتعريف ابن السرّاج للخبر الذي جاء فيه قوله: «والاسم الذي هو خبر المبتدأ هو الذي يستَفِيدُه السامعُ، ويصير المبتدأ به كلاماً»، جاز لنا عندئذ اعتبارُ متنِ كلّ قصة من قصص «مصائد النسيان» خبراً يستفيده القارئ، لا بل خبراً متروكٌ تأويلُ دَلالاته لثقافة القارئ. غير أن هذا الخبر «الذي يستَفِيدُه السامعُ، ويصير المبتدأ به كلاماً» يتنزّل في قصص «مصائد النسيان» منزلة تتجاوز منزلته النحويّة إلى أخرى سرديّة تضمُرُ فيها علاقة المبتدأ بخبره (الحدث المرويّ) لينفتح على خبر ثان (قصة ثانية) ينشأ في ذهن القارئ ويكون من صنع خياله.
وصورة ذلك ما نلفيه من حرص بوشعيب عطران على تخيّر عناوينَ لقصصه تخيُّراً يتجاوز فيه ما للعناوين من وظائف هي في العادة لا تزيد عن كونها تلخيصاً للمتن المرويّ، ليجعل من كل عنوان سبيلاً إلى إحداث انعدام توازن في ذهن القارئ بعد الانتهاء من قراءة كلّ قصّة: أي يجعله يقف على حقيقة أنّ العنوان فيها لم يكن قضيّتَها الحَدَثية المسرودةَ وإنّما كان سِراً كتوماً لم يتكشّف إلا في الجملة أو في الجُمَل الأخيرة منها تكشُّفاً له عنفوانه السرديّ الخاص، حتى لكأنّ كلّ قصة من قصص «مصائد النسيان» قِصّتان: قصة أولى تستغرق متن الحَكْي، وقصة ثانية تظهر في خاتمته وتخالف سيرورته، ويكون العنوان الجسرَ الفنيَّ الذي يربط بينهما، والذي يعبر منه القارئ من الأولى إلى الثانية ذهاباً وإياباً آملاً في إمكان تحقّق بعض ما دخل به حدثَ القراءة من تصوّرات.
وبالإجمال يمكن أن نوصّف تقنية بوشعيب عطران السردية كالآتي: تخيّرُ عنوان للقصة مُرغِّبٍ للقارئ في الدخول إلى متنها دخولاً مُجهَّزاً بعَتادٍ من التصوّرات الشخصية، وإيرادُ حكايةِ بتوسُّعٍ ذاتِ صِلة حَدَثيّة بدلالة العنوان، ثم مفاجأةُ القارئ بتقديم نهاية للحكاية تهدم جميع تصوّراته، ووضعُه أمام قصة جديدة (هي قصّة العنوان) تتواصل أحداثُها في ذهنه عبر قناة التخييل.
قصتان نموذجيتان
وللتدليل على ما ذهبنا إليه من حال القارئ وهو موزّع بين تأويل علاقة العنوان بالقصة وعلاقة القصة بخاتمتها، وعلاقة الخاتمة بالعنوان، نكتفي بإيراد المثاليْن المواليَيْن: في قصة «لوحة» يُنشئ الكاتب حوارية بين رسّام وامرأة تزور معرضه الفنيّ، فالرسّام لا يُخفي إعجابَه بالمرأة، والمرأة لا تُخفي إعجابها باللوحة من دون أن تُعير الرسّام اهتمامَها، وفيها يقف القارئ على فحوى تلك الحوارية وما دار فيها من جدل حول دَلالة اللوحة التي تمثّل سفينة وسط الأمواج العاتية جعلت المرأة الجميلة تسأل الرسّام: «لماذا حبستَ مياهَ البحر هنا؟» فيصيح بها الرسام: «لا، لا تلمسيها»، وفي الوقت الذي يأمل فيه القارئ مواصلة حكاية ما سيكون من ردّ فعل المرأة بعد أن نهرها الرسام عن لمس لوحته، يُحيلُه الكاتب على نهاية للقصة غير منتظَرة، وهي اندلاق كأس الماء من يد الرسام الذي غفا لكثرة تعبه استعداداً لإقامة معرضه الفنيّ، فـ«قام من مقعده يتطلّع إلى لوحته التي ما زالت مثبتة في مكانها، ووجه الحسناء يتراقص أمام عينيْه ومخيَّلته، بشتّى الألوان والصور، كاسحاً كلّ فضاء غرفته»، وجليّ هنا أن العنوان «لوحة» له اتصال بمتنها الحكائي المحمول في الحوار بين الرسّام والمرأة، وله أيضاً قصّته الخاصّة: هي قصة ستجد لها سيرورة حكائية في ذهن القارئ يكون بطلها ذاك الرسّام الذي يحلم بامرأة جميلة قد تزور معرضه.
وفي الشأن ذاته، تنهض قصة «سفر» على حكاية سائق سيّارة أجرة، يوقفه رجل وامرأة، ويطلبان إليه إيصالَهما إلى مكان بعيد بأطراف الغابة، وعلى كثرة تعبه، يغريه ما عرضا عليه من مال، فيوافق على نقلهما إلى المكان المعلوم، فيجلسان وراءه جنباً إلى جنب، «حدّق فيهما من خلال المرآة… المرأة بدينة شيئاً مّا، ترتدي ملابس سوداء مثل الرجل، ووجهها يعلوه الشحوب وعيناها فارغتان… أمّا الرجل فقلّما يرفع عينيه المركّزتيْن باستمرار على يديه اللتين يفركهما بعصبيّة». وبهبوط الليل، وتنامي صمت الراكبيْن، أحسّ السائق بالرهبة، «إلا أن الرجل حطّ يده على كتفه قائلاً بصوت رصين: لا تخشَ شيئاً، لم يبق إلا القليل…». ومع بزوغ القمر، أشار الرجل إلى السائق بالتوقّف، ونزل هو والمرأة، وتركا السائق الذي «ـظل يراقبهما حتى غابا عن بصره… تنفّس الصعداء بعد رحلة مضنية محفوفة بالخوف والقلق، اتكأ على المقود وهو يشحذ ذهنه ليتذكّر وجهَيْهما؛ لحظة قفز من مكانه… فالمرأة تشبه زوجته والرجل هو نفسُه». والذي تفيده الملاحظة في هذه القصة هو كون عنوانها ظلّ على تواصل مع متنها السرديّ، ولكنه أحال إلى قصّة أخرى قد تكون أمنية السائق في أن يقوم بسفرة إلى الخلاء مع زوجته ويتكفّل فيها القارئ بنسج مغامرتها السردية.
وما نخلص إليه من قراءتنا لقصص المغربي بوشعيب عطران هو قدرته على الترحّل بالحكاية المسرودة من الكتاب الورقي إلى مخيِّلة القارئ، وهو ما نرى فيه تقنية سردية تضمن لكلّ قصّة حقّها في التنامي الدَّلالي في ذهن قارئها ما يمنع عنها النسيان.
ـــــــــــــــــــــــــ
الحياة