مصر: العشوائية تشوه وجه الثقافة في “سور الأزبكية”

الجسرة الثقافية الالكترونية
*منة الله مصطفى
مثل كل شيء جميل في مصر، لا يبقى على وضعه، تحول “سور الأزبكية” من مكان راق للفكر والأدب والثقافة والسياسية والتنوير حيث يبيع الكتب الحديثة والقديمة النادرة في مختلف التخصصات والمعارف والتي صار العثور على بعضها صعبا تحول إلى مكان تحاصره العشوائية والفوضى وتغول الباعة الجائلين عليه، وإلى جواره نشأت أسواق تعج بكل أنواع الملابس والأحذية والأطعمة والمستلزمات وتزحف عليه وتشوه معناه ومغزاه الحضاري، علاوة على المقاهي المنتشرة في الشوارع المحيطة به والتي تبيع الشاي إلى جانب الإزعاج والضوضاء التي تحدثها أصوات آلات التسجيل المرتفعة بأغاني مطربين شعبيين وآخرين مغمورين حيث لا ذوق ولا فن.
صورة مزعجة من الفوضى والعبث يتوسطها السور بكل تاريخه في خدمة الثقافة والأدب ورواده الذين يشكلون نوعية خاصة من الناس الحريصين على الفكر والعلم.
ومع ذلك فمازال له رواده وجمهوره رغم المصاعب التي يواجهونها في سبيل الوصول إليه حيث يخترقون تلك الأسواق العشوائية التي تحكم الحصار حوله.
يعود إنشاء هذا السوق إلى عام 1933 حينما استأجر أحمد الحكيم كشكا من البلدية بإيجار شهري قدره 240 قرشا ونشر بضاعته من الكتب على جزء من سور الأزبكية، وهكذا ولدت مكتبات سور الأزبكية.
وقد حرص أصحاب المكتبات منذ سنوات بعيدة على أن يوفروا الكتب القديمة والنادرة بشكل خاص، والتي أعيا البحث عنها المثقفين في المكتبات الكبرى والرسمية إلا أن سور الأزبكية كان يروي ظمأهم .
ظل السور على مدى سنوات طويلة مقصدا للعائلات الساعية إلى بث روح الثقافة في نفوس أبنائها، وكذلك أصبح مركزا لتشكيل ثقافة جيل أثرى عالم الثقافة العربية بشكل عام أمثال نجيب محفوظ وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وغيرهم.
يضم السور الواقع أمام مسرح العرائس بالعتبة، نحو 132 مكتبة، لبيع وشراء الكتب المستعملة، ونظراً لمكانته الكبيرة في نفوس رواده وزائريه، خصصت الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكانا بنفس الاسم، داخل معرض القاهرة الكتاب.
[ تجولت وسط الزحام لمعرفة المزيد من التفاصيل حول أزمة سور الأزبكية الآن وكيف صار مجرد “سويقة” حسب وصف الزوار وأهل المكان.
ويؤكد خيري شلبي صاحب مكتبة بسور الأزبكية إن السور له نظراء في مدن وعواصم العالم الكبرى ففي باريس ولندن مثلا هناك باعة للكتب القديمة وأنا رأيتها وتجولت فيها وهي تعد مظهرا حضاريا ومعلما ثقافيا للمدن ولكن أن تتحول هذه الأماكن لبيع الملابس وما شابه فهذا مالا يحمد عقباه وسيكون مصير السور نفس مصير الفجالة.
ويؤكد أن علاقة الناس بالكتاب “أبدية” وأن التكنولوجيا مهما بلغت مداها سيبقى الكتاب هو الوسيلة الأساسية للثقافة مطالبا بالحفاظ على أماكن بيعه لافتا إلى أن سور الأزبكية سيظل يؤدي دورا كبيرا للمثقفين وطالبي المعرفة.
وأوضح أن السور في حد ذاته يعد واجهة حضارية للمدينة و كلما كان خاضعا لنظام دل ذلك على أننا أمام بلد متحضر يؤمن بالثقافة أما الوضع القائم الآن فهو امتهان للثقافة والمثقفين ولمهنة الكتاب، معربا عن استيائه أن تتحول منطقة بيع الكتب، إلى منافذ لبيع الأحذية والملابس معربا عن أسفه أن يتعرض سور الأزبكية لهذه الانتهاكات منذ فترة السبعينيات وحتى اليوم.
واقترح شلبي على محافظ القاهرة أن يقوم بحملة ضد أكشاك الكتب المخالفة التي يستخدمها أصحابها في بيع الملابس والعطور مؤكدا أنه على من يرغب في هجرة بيع الكتب فليترك “الكشك” المرخص له كما عليه ويرحل عن المكان.
ويقول علي بيومي صاحب المكتبة رقم 132 بالسور: إن المكان تحول إلى “سويقة” صغيرة مشيرا إلى أنه في الماضي لم يكن يحضر لسور الأزبكية سوى المثقفين أو المهتمين بالشأن الثقافي، أما الآن فالوضع اختلف وأصبح المكان ساحة للبلطجة والتحرش بعد أن كان ساحة لنشر العلم والمعرفة والوعي ولك أن تتخيل أن يكون السور عند ممر المترو في محطة العتبة حيث الزحام والفوضى.
أما كامل صاحب إحدى المكتبات فيقول: والدي يعتبر مؤسس السور وكان يجلس مع مجموعة من البائعين على ناصية شارع حمدي سيف النصر أيام الأوبرا القديمة حيث حصلوا عام 1953 على 48 رخصة للمكتبات.
وتحت لافتة كتب عليها 88 سور الأزبكية ووسط زخم من الكتب القديمة جلس سمير أبوالعلا الذي عاد بذاكرته إلى أربعينيات القرن الماضي عندما كانت الكتب معلقة على سور حديقة الأزبكية أمام مبنى الأوبرا القديم، وتباع على أنغام حفلات أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وتراوده تلك الذكريات الجميلة بما فيها من وفود الزبائن من مختلف الجنسيات، والطبقات، والفئات، والأعمار، مشيدا بمستوى العلاقات والتعاملات الراقية التي كانت تجمع البائعين بالزبائن طوال العام، والتي كانت أقرب إلى علاقة الصداقة منها إلى علاقة بائع ومشتر كما أصبح الحال في هذه الأيام.
وتوقف سمير بالزمن قليلا لوصف الواقع الذي عايشه مع سور الأزبكية قائلا: انتقلنا أكثر من مرة، الأولى إلى كوبري الأزهر في منطقة الدرّاسة، والأخيرة إلى مترو العتبة، وكنا في الماضي نستخدم سور حديقة الأزبكية في عرض كتبنا، لكن مع أعمال التطوير والتغيير التي شهدتها المنطقة اضطررنا إلى التنقل، حتى عدنا أخيرا إلى مترو العتبة.
وعن سوق القراءة، قال: على الرغم من أن الكتاب فقد قيمته نتيجة غلاء المعيشة، فإن السور فيه إبداعات وإصدارات عديدة وقديمة، وعلينا أن نضع دعائم أساسية للثقافة لدى الجيل الجديد، فالشباب ليس كلهم عازفون عن القراءة ولكن النسبة التي نتمناها غير موجودة ونأمل أن تتغير خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
وعن حال السور بعد التغيرات التي شهدتها مصر، قال سمير: لاحظت هذا العام إقبالا كبيرا على الكتب السياسية والتاريخية والقانونية والأدبية، حيث تلفت الأنظار تلك الكتب التى تحمل عناوين عن الثورة، إلى جانب كتب الأدب السياسي، والأدب الساخر، والكتب التعليمية، والروايات العالمية، بالإضافة إلى الكتب الدينية والثقافية والسياسية لمحمد عمارة، محمد قطب، محمد حسنين هيكل، وغيرها من الكتب، فاليوم الرغبة في المعرفة جامحة، الجميع يريد معرفة كل ما يدور حولهم من أمور سياسية وقانونية وفي مختلف المجالات.
أما صفوت حمام وهو أحد الباعة فيعتبر أن أكبر مشكلة تواجهه هي ملاحقة الأجهزة الرقابية، بسبب اضطراره لبيع الكتب المقلدة بعد ارتفاع أسعار الكتب الأصلية.
وناشد الحكومة، بضرورة المساهمة في دعم صناعة الكتب، بتخفيض سعر الورق والطباعة، ما يزيد من الإقبال على القراءة، معتبرا أن الثقافة أفضل وسيلة لمحاربة الإرهاب والأفكار المتطرفة.
وقال محمد حتاتة إن أكبر مشكلة تواجه باعة الكتب هي ارتفاع سعر الكتاب ما يضطر القارئ إلى اللجوء إلى أماكن مثل سور الأزبكية حيث يجدها بنصف الثمن، ما يعمل على تخفيض مبيعات المكتبات، مطالبا الحكومة بالمساهمة في تدعيم سعر الكتاب.
وأضاف أحمد عاطف، صاحب مكتبة أن وزارة الثقافة تتجاهل المنطقة من حيث الدعاية والاهتمام ولا تتواصل مع المكان إلا في فترة معرض الكتاب، مشيرا إلى أن الباعة الجائلين يسيطرون على السور.
وأشار مصطفى هاشم، صاحب مكتبة، إلى أن السور من أكبر أسواق الكتب في الشرق الأوسط، لكنه يعانى من التجاهل وعدم الدعاية له لتعريف القارئ به، مضيفا أن السور به كافة أنواع الكتب الجديدة والمستعملة وبأسعار مناسبة.
وتابع أن ظاهرة تقليد الكتب تمثل خسارة للمؤلف ودار النشر، مناشدا الحكومة الاهتمام بسور الأزبكية من حيث المرافق وتنظيم الباعة الجائلين المسيطرين على السوق أو إيجاد مكان بديل.