مصطفى البلكي: الحركة الثقافية في جنوب مصر أكثر فعالية من العاصمة

الجسرة الثقافية الالكتروينة
محمد الحمامصي
يتمتع القاص والروائي مصطفي البلكي برؤية أصيلة لواقع المجتمع المصري عامة والجنوبي خاصة، فهو يعيش فيه منغمسا بكليته في موروثه وعاداته وتقاليده، يرى ما لا يراه الآخرون تفاصيل الشخصية والمكان والزمان، الأمر الذي أثرى ونوع كتاباته بين القصة القصيرة والرواية، وبين الابداع للأطفال والكبار، وقد صدر له للكبار مجموعات قصصية “الجمل هام للنبي”، و”صور مؤجلة للفرجة” و”أصوات الجرار القديمة”، “قصص” وأعمال روائية “تل الفواخير”، “رمسيس الثاني البناء الأعظم”، “بياع الملاح”، “سيرة الناطورى”، و”بينوزيم.. الكاهن الأكبر” و”طوق من مسد” وغيرها، وحصل على العديد من الجوائز من اتحاد الكتاب، نادي القصة، إحسان عبدالقدوس، ساقية الصاوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة وغيرها.
من البدايات الأولى للكتابة ومدى تأثير الأجواء في صعيد مصر على القضايا محور المعالجة في أعماله، انطلق الحوار مع الكاتب الذي لم ينفصل كغيره من الأدباء عن الجنوب حيث لا يزال يقيم هناك، قال “لا نستطيع فصل بدايات الكتابة عن ذلك العمر الممتد قبلها، فالتاريخ يوجد عبر فكرة التراكم، ونحن كبشر نمضي وما يرسخ داخلنا هي تلك اللحظات التي تضيف حلقة في سلسلة طويلة ترتبط بالذاكرة، حينما تكون يقظة فأننا يسهل علينا أن ندخل إليها من دون مشقة، والحلقة الأقوى في تلك السلسلة هي تلك التي ترتبط بالطفل الذي يسكن كل واحد من، هو من يشكل الجزء الرائع من حلقات تضاف لاحقا، فنحن نكون أمام حقائق ثابتة لا يلزمنا الاعتراف بها بقدر ما نكون في حاجة لاستعادتها. ومن منا لا يشتاق لهذا الجزء بصدقه؟ من منا لا يحن ويتحول الحنين لصراخ بداخله وحتى نمضي في حياة تبدو قسوتها غالبة ليس لنا من معين إلا تلك الروح البريئة، بها نوجد وبها نكتب، وبها نستعيد كل ما كان لنا، ونحن في نفس الوقت ننظر إلى ما سوف يأتي أو الذي سوف يكون لنا”.
وأكد البلكي أن الجنوب ما زال المكان كما هو في أغلب مكوناته، لم تصبه جملة التناقضات التي أصابات بعض المجتمعات الأخرى، بكل شيء أصيل ما زالت النفوس تتنفس وتتحرك، وأضاف “كلما نظرت إلي تلك البيئة الصعبة والقاسية، يزداد عشقي لها، لا لأني وقعت في غرامها في لحظتي، لكن لأن دوام النظرة أوجدت صلة، وتلك الصلة مع الأيام أصبحت كحبل يرق ولا ينقطع، مهما حاولت أن ابتعد عن مفردة أجدها هناك حاضرة في ذاكرة ذلك الطفل الذي عاش ونما في هذا المكان، حتى لو طالته يد معول غير فيه.
وأضاف، أثق أن ما في الداخل دائما يأخذني إلي صور ومكونات حاضرة، ستعمل على إعادة البناء والتشكيل من جديد، برؤية مختلفة في كل مرة أوجد فيها في نفس الظروف عبر ذاكرة واضحة، وبذات الطريقة وجدت قصص مجموعتي الأولى، في قصصها استعدت ملامح لأرواح عاشت، وأماكن كان منها ما بقي ومنها ما انفلت وانتهى وجوده، كنت في حالة من العشق الغريب لتلك المنطقة التي ولدت فيها وعشت وتعلمت وما زلت أعيش بين مكوناتها، منها كان انطلاق الكلمة، بحثت عن أشياء فقدت، أردت أن أعيدها لأدفن كياني كله فيها، واتنفس بعمق بعدها، وأهتف مع كل قصة: ها أنا أستعيد حياتي”.
ورأى البلكي أن العين الباحثة كانت عين طفل، عين صادقة لولا وجودها حاضرة ما وجدت مجموعتي الجمل هام للنبي فهي مروية على لسان الطفل الذي كنته!.
وحول ما يعنيه ذلك من سبق القصة القصيرة للرواية، قال البلكي “نعم، لكن الرواية وجدت كعمل متكامل قبل أن أجمع قصص مجموعتي “الجمل هام للنبي” بمعني كانت مكتملة، وحينما أقبلت على النشر، دفعت بالمجموعة، وكانت محظوظة لأنها عرفتني على الراحل خيري عبدالجواد، وهو من أجاز المجموعة، وجمعتني معه جلسة، كانت نصيحته الوحيدة لي أن انتبه إلي التراث، فهو زاد لا ينتهي لمن أراد أن يوجد له مكانا في عالم السرد.
وأنا منذ البداية كنت على صلة وثيقة بهذا الموروث الذي يقول لنا: أنا هنا قبل أن توجدوا. وكلنا بداخلنا أو لنقل بعضنا يعي جيدا المعني الموجود خلف كل طقس او مثل أو أغنية أو عدودة، لكن المقيم فقط هو من يعرف كيف يوجدها، وفي النهاية لا بد من العمل علي تثبيت الصالح لعصرنا وتنحيت كل ما يجافيه”.
وأوضح البلكي “تنوع المصادر يؤدي لثراء المخزون المعرفي، ويخلق نموذجا منفتح لا يصادر أو يمنع، يعرف قدر الإنسان وحقه في الوجود، لا يقنع بالتسليم بل يملك الجرأة لأن يوجد شيئا آخر من تراكم هذه المصادر، وأنا وجدت في بيت كانت جدتي فيه عموده، بل في كثير من الأحيان الحاكمة من خلف ستار، تختصر كل شيء في كلمات أو في حكاية أو في مثل شعبي دال، كل شيء لديها قابل لأن يتحول لحكاية، وما تقوله يحتاج لتفكير أو الانتظار حتي يدرك المستمع الوقت الذي يصبح فيه قادرا على التأمل، وهذا حدث معي، فهي بحق المدرسة التي تدربت فيها على الحكي، وعلي إدارة الوقت، وعلى تحويل لحظاته إلي ثمار ناضجة، وإن لم أستطع أجعله براحا أوجد تسلية ما لنفسيز
وفي وقت لاحق تعرفت على المكتبة، وكانت مكتبة مدرسة ناصر الثانوية العسكرية بأسيوط، وفيها صادقت محمد عبدالحليم عبدالله، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، ويحيي حقي، وغيرهم، وكل كتاب كان حكاية لوحده، كنت بعناد منى أجعل شخصياته تتحرك في واقع اليوم، كنت أجعلهم حولي، وهم بعناد مضاعف كانوا يوجدون معي على مائدة الطعام، يأكلون كما أفعل، كانوا يستمدون الطاقة منى ليعيشوا أكبر وقت ممكن، الأجمل في تلك الفترة أني أصبحت دائم الشغف بعطر الكلمة.
ورأى البلكي أن الكتابة هي وسيلة خلاص، وأضاف “لولا التأمل ما وجدت، فهو وحده يؤدي لوجود التأقلم بين الذات المسكونة بما وجد وبين ما نحب أن يكون وهو نبت الخيال، اللحظة التي يتم فيها التزاوج بين العالمين يوجد الإبداع وتكون الكتابة، فرواية “تل الفواخير” وجدت لأستعيد البيت الذي تربيت فيه وهو كان لجدى من ناحية أمي، بيت هدم وشيد مكانه مسخ خرساني التكوين، وغاب الرواق والمجاز وغابت الخزانة والمندرة والزير، والطاقة، وكادت الذكريات أن تتسرب، فكان لا بد من إيجاده وجعله حاضرا، والأمر نفسه حدث مع “بياع الملاح” هي حالة تلقي الضوء على الغربة من خلال شخصيات متنوعة ومختلفة في الطبائع، وحينما أوجدتها كان الطفل الذي كنته جزءا أصيلا فيها، طفل فتح عينه فلم يجد والده، كانت نداهة بلاد الناس قد سحبته، ففتح الصغير عينه فوجد خاله فناداه بأبي، وحينما يعود الأب ويأخذه في حضنه، لم يتحمله، وغادره لخاله، فالغربة بمقدار ما تعطي، تأخذ، ونفس الأمر حدث مع “طوق من مسد”، و”سيرة الناطوري”.
وحول تجربته مع النشر وهو يعيش في الصعيد، بعيدا عن دور ومؤسسات النشر الخاصة والرسمية في القاهرة، قال “لم أجد مشقة في النشر، ربما المشقة الوحيدة كانت هي السفر للقاهرة حيث دور النشر، في زمن لم أكن بعد تعرفت على الانترنت، لكن الآن الأمور أسهل، فهناك أعمال تعاقدت عليها ولم أر صاحب الدار إلا حينما ذهبت لأستلم نسخ العمل، صحيح في البداية دفعت حتى يتم النشر، تلك التجربة فيما بعد، لم أكررها، وكنت محظوظا فقد نشرت بعض الأعمال في سلاسل هيئة قصور الثقافة، وفي دار الهلال”.
قضايا الصعيد ومدى تأثير الموروث والعادات والتقاليد على تناوله لها أوضح البلكي أنه مع مقولة: الإنسان ابن بيئته، وهنا في الصعيد، البيئة قاسية، حقية مرة لا بد من القبول بها ونحن نتعامل مع هذا الجزء من الوطن، فما بالك بمن يعيش فيه، هو إن غض الطرف وتعامل مع مظاهر الجمال فيه، أوجد لوحة تسر العين، تكون بمثابة من وضع بودرة بيضاء على جرح، لا بغرض العلاج لكن بغرض الحجب، وكل حجب يؤدي إلى تفاقم الداء، أما من نظر إلى مظاهر القبح أولا كإنسان، وليس بصفته ابن هذا الإقليم، فإنه ستعامل مع كيان هو في طبيعته كتلة من السلبيات والايجابيات، وما وجد ورسخ يحتاج لمن يقول: داوى بالملح الجراح”.
وأضاف “الغواص الماهر حينما يصل للقاع يكون رفيقه الوضوح، كذلك المتناول لكل قضايا الصعيد الشائكة بداية من عاداته السيئة التي يلعب فيها الموروث دورا مهما، وانتهاء بالتعاملات والعادات التي تحوله إلي إنسان يمارس العنصرية في أبشع صورها عبر العصبية والذكورية التي ينظر إليها من خلال تركيب بيولوجي فقط، حينما يتعامل مع نصف مهم في محيطه وهي المرأة أو في بعض الأحيان من يخالفه في العقيدة، تظهر كل رواسب السنوات وفي كثير من الأحيان تكون قريبة من هدم السلم المجتمعي. وعبر أعمالي ألقيت الضوء على بعض تلك المشاكل، ومنها تراجع الرمز وأقصد به كبير العائلة، وكذلك التمسك بكل ما هو أصيل، والعلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة التي طالها الكثير من أمراض هذا العصر، وعادة الثأر بكل قبحها”.
ورأى البلكي أن الحركة الثقافية أصابها الكثير من السكون، وقال “من الغريب في الأمر أن المركز الذي كان يعد مركز إشعاع هو نفسه الذي يساهم بالقدر الأكبر في حالة الشتات والتشرذم، فالثقافة إن لم تعمل على الرقي بالذوق فلا فائدة منها، وهي وحدها التي توجد العنصر المسلح بالمعارف المختلفة، وبها يستطيع أن يمضي في الحياة ويكون كسراج أينما حل وجد النور، وآفة هذا العصر وجود الشلة التي تدافع عن مصالحها والتي تعمل على إراحة الطرف المقابل لها، وتنسيه أن التنوع هو ثراء، وأنا الفكر الواحد القائم على المصلحة يؤدي إلي فقر، ونحن بحق نعيش حالة الفقر الثقافي. ورغم هذه الصورة ففي الأقاليم حركة ثقافية فاعلة، تعمل بعيدا عن الضوء، تؤمن بضرورة وجودها في مجتمع محتاج لها ليتلمس خطواته نحو عالم أصبحت فيه المعرفة سلعة، وهذه الحركة تقوم على عاتق فئة فضلت البقاء لتكون إقليمة ذات نظرة تتجاوز محيطها، أثرها أعظم من تلك الأبواق التي تعيب عليهم أنهم فضلوا البقاء حيث نبتوا، لهم أقول أنتم رمانة الميزان في شادر يوشك أن ينفض عنه رواده”.
وعن الحركة الثقافية في أسيوط أضاف البلكي “الحركة الثقافية في أسيوط حركة متجددة، بمعني هي فاعلة في محيطها، وكانت بمثابة شعاع ضوء انطلق إلى كل مدن الصعيد وقراه ونجوعه وعزبه، ومن يضيء لا ينسى، لذلك كانت النواة الأولى هي نادي أدب أسيوط الذي جذب أغلب من هم على الساحة الآن، وهم الذين عادوا وأوجدوا حياة ثقافية في كل ربوع الصعيد، وما زال هذا الكيان حتى الآن موجودا، وبجواره ظهرت كيانات أخرى، وجدت عبر الجمعيات الأهلية ومنها مركز أحمد بهاء الدين الثقافي في الدوير، وكيانات شبابية أخرى مثل صالون آفاق، ونادي القصة بأسيوط، ولولا حدوث التلاقي بين كافة الاجيال ما وجدت تلك الحركة.
المصدر: ميدل ايست اون لاين