معرض سوزان شكرون.. لوحة في كتاب وكتاب في لوحة

الحسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد شرف 

في معرض سوزان شكرون، المقام في القاعة الزجاجية لوزارة السياحة، يمكن رؤية عدد وافر من الأعمال الصغيرة المعلّقة على الجهة اليسرى من قاعة العرض. هذه الأعمال تبدو، وبعد معاينة المعرض في كليته، كأنها دراسات تمهيدية للوحات الأكبر حجما المقابلة لها.

هذا الحكم قد يكون صحيحاً في بعض جوانبه، لكنه لا يعني أن ما نُفذ بحجم صغير كان سابقاً زمنياً حكماً للوحات ذات المقاسات الأخرى. إذ ربما كانت هناك استراحات وظروف متباينة خلال فترات معينة، يودي استغلالها إلى تنفيذ فكرة سريعة هنا أو هناك، قد تتطور لاحقاً لتأخذ مدى أكبر، أو تبقى على حالها. وفي كل الأحوال، فإن الانطباع الأول الذي تتركه لدينا معاينة الأعمال، هو أن سوزان شكرون قامت بعملها على قاعدة الجدية والعناية بالعمل منذ البداية، وحتى وضع اللمسات الأخيرة عليه، مما يعني أن التلقائية، أو المباشرة، قد تكون من صفات التعامل مع بعض أجزاء اللوحة في سياق العمل، لكن النتيجة النهائية تشير إلى سعي واضح نحو بلورة الفكرة والذهاب إلى لوحة كاملة الجهوزية .

أحوال المدينة وذهانها

من الواضح أن المدينة، كموضوع تشكيلي، كانت شغلت شكرون في العدد الأكبر من الأعمال المعروضة أمامنا، إن لم يكن في الأعمال كلها، ويدلنا على ذلك عنوان المعرض نفسه: «ذهان المدن». وكما تفيدنا التجربة، أذاتية كانت أم غير ذاتية، فإن تصوير المدينة لا يعني حكماً حاجة الفنان إلى الاحتفاء بها، وتصوير عناصرها كمنجز حضاري وتطور تقني يستحق الإعجاب والتنويه، كما كان يحدث عادة في بعض نتاج الواقعية الاشتراكية، التي كانت لها حساباتها وأهدافها العقائدية. فالمدينة هنا أشبه بواقع مأزوم، اتخذ لنفسه هذه الصفة نتيجة الوهن الذي أصاب المدينة نفسها، وهو في الواقع وهن بشري ألمّ بسكانها، في تنقلهم المستمر بين الأزمات. تفترض سوزان شكرون أنها «جلست (أي المدينة) متراخية على أريكة الذكرى لتستريح، فبدأ الماضي باجترار خيباتها»… سقطت المدينة في الحلم فـ «راودتها قصص الأطفال، فشرعت ترسم بيوتهم… إنها مدن مصابة بالذهان»، كما تقول الفنانة.

كتاب وتصوير

البعد الرمزي، والتعابير المجازية، واللحظة الشعرية تظهر جميعها بوضوح في ما سبق ذكره، ولا ننسى أن شكرون، وبالتوازي مع معرضها، وقَّعت كتابها المسمّى «مانيفستو الموت في ذاكرة سمكة»، الذي يضم هواجس تقترب في أبعادها النثرية من التعبير التصويري الوارد في اللوحات المعروضة. أما في يختص بالناحية التقنية، المتصلة مباشرة بهذه اللوحات، فلا بد من ملاحظة المنحى الهندسي المعتمد في عملية التأليف وبناء العناصر، المتجسدة خطوطاً، ومكعبات ومستطيلات غير مكتملة، أو محوّرة في رسمها الهندسي، والممتدة عمودياً أكثر منها أفقياً، ضمن اختصار تشتد مفاعيله أو تضعف بحسب الحاجة، مما يذكرنا، إلى حد ما، بأسلوب نيقولا دي ستيل، الفنان الفرنسي من أصل روسي.

على أن سوزان شكرون عمدت إلى تقطيع اللوحة، فالمدينة تشغل حيزاً محدداً، وهذه الحدود تصبح أشبه بإطار تتناقض محتوياته مع ما يحيط بها، وهي، أي المدينة، تكبر كي تحتل فضاء اللوحة تارة، أو تصغر لدرجة أن ينحصر مداها في بيوت قليلة تارة أخرى، وفي حالات الانحسار تتسع المسحات الحرّة، المسطّحة والمقمّشة، وتخترقها خطوط، فتبان وكأنها خارجة من منزل الجنون أو «داخلة إليه في ارتيابها، وصارت تحاكي هيجانها بمفردات مشربكة» وإذ غفت، فـ «في الحلم راودتها قصص الأطفال، فشرعت ترسم بيوتهم.. إنها مدن مصابة بالذهان»، على ما تفيد سوزان شكرون.

 

المصدر:السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى