معرض وجيه نحله.. دينامية اللوحة الحروفيّة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد شرف

 

 

المرة الأولى التي رأينا فيها عملاً لوجيه نحلة يعود تاريخها إلى زمن بعيد، وربما إلى سبعينيات القرن المنصرم. مذ ذلك الوقت كان الفنان يندرج في صفوف التشكيليين اللبنانيين، الذين كان لهم دور واضح في دفع تيار الحداثة الفنية التشكيلية في لبنان نحو آفاق جديدة، وهي الحداثة التي كانت بدأت تشق طريقها منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، في زمن لم يكن فيه عدد التشكيليين اللبنانيين على القدر الذي نشهده في وقتنا الراهن. لكن ما ميز ذاك الجيل هي العلاقة الجدية و «العنيدة» بمسألة التشكيل، المتمثلة بسعي أفراده إلى إيجاد أساليب وطرق جديدة، تتناسب مع ما كان يشهده الفن التشكيلي، في كل مكان، من تطور متواتر وحثيث.

كان وجيه نحلة، كما العديد من فناني جيله، لا يوفر الجهد في البحث عن موتيفات وعناصر من شأنها أن توّفر مادة تشكيلية لأعماله، تنسجم، بهذا الشكل أو ذاك، مع المحيط والواقع المحليين وتستفيد، في الوقت نفسه، من النموذج الغربي، الذي كان سار أشواطاً بعيدة في قضية التشكيل. هذه المحاولات والأبحاث والمحطات يمكن رصدها في المعرض الاستعادي، الذي يُقام للفنان في مركز بيروت للمعارض، والذي يضم أعمالاً تنتمي إلى مختلف المراحل التي مرّ بها خلال ما يقارب ستة عقود من الزمن، بدأت منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى أيامنا هذه. أعمال الفنان الأولى، التي نرى بعضها في المعرض، لم تخرج عن الإطار الكلاسيكي، وهو أمر طبيعي وينسحب على مجمل فناني تلك الحقبة، على عكس الفنانين الشباب في زمننا، ممّن يسعون إلى خوض تجارب حديثة ومعقدة فور تخرجهم من المعاهد الفنية. وإذا كان وجيه نحلة قد تأثر، إلى حد ما، في بداياته، بمعلّمه مصطفى فرّوخ، إلاّ أنه أدار ظهره إلى التصوير الكلاسيكي بعد حين، على حساب الشغف بالحروفية، الذي رافقه خلال مراحل نتاجه كلها، ينصرف عنه حيناً ثم يعود إليه، ولو بوجوه ومداخل أخرى. هذه العلاقة المديدة بالحروفية نراها، أيضاً، عبر أعمال عديدة يضمها المعرض الذي نحن في صدده.

على أن هذه العلاقة كانت انفصلت، منذ زمن بعيد، عن المنحى التقليدي المعروف، الذي اتبعه كثيرون ممن عملوا في هذا المجال، إذ كان وجيه نحلة يسعى، من خلال أعماله الحروفية، لإيجاد جسر ما بين الشرق والغرب، عبر تطويع الخط على أسس تقترب من التجريد الغربي. هكذا، جاءت أعماله ذات مقاربات تأليفية على قدر واف من الحرية، بعيداً من التقيد الحرفي بالقواعد التي تميز هذا الخط عن سواه، بعدما جرّد الحرف العربي من دلالاته اللغوية، منفصلاً عما يراد التعبير عنه، عبر تحويله إلى قيمة تشكيلية مستقلة. رسم، كي لا نقول كتب، أسماء وأمنيات وعبارات تمت بصلة إلى محيطه، لكنها، وفي الدرجة الأولى، أكثر التصاقاً بعالمه الداخلي، وهذا ما تفيدنا به الألوان الصارخة ذات القيمة التعبيرية، التي استقت قوتها، في بعض الأحيان، من الهندسة أو من الأشكال الحادة، ما أضاف إلى اللوحة بعداً دينامياً، تكرس، أيضاً، عبر اللجوء إلى حلول غرافيكية معقّدة، مما وضع هذه الأعمال على سكّة مختلفة عن تلك التي ميزت أعمال مرحلة البدايات، الأقرب إلى الرزانة والتبسيط.

استطاع وجيه نحلة، إذاً، أن يجعل من الخط أو النص مادة تشكيلية، شأنه شأن الحروفيين العاملين في هذا المجال، مما أكسب اللوحة دلالات خاصة، وذلك عبر طريقة التعامل مع المضمون، المقروء أحياناً، أو الغامض أحياناً أخرى، لتكتسب اللوحة حينها أبعاداً وقيماً تجريدية. وفي تسلسل منطقي ربما، خرجت أعمال الفنان، في المرحلة الأخيرة عن ارتباطها النسبي بالكتابة، رغم احتفاظها ببعض ملامحها ولو من بعيد، متحولة إلى أعمال لونية بصرية، اجتمعت فيها عناصر وموتيفات عدة، ليس أقلها تلك الحركة السديمية، وذاك التماوج والانسياب، فانحسرت الخطوط شبه المستقيمة لدرجة الاختفاء، فاسحة في المجال أمام حركات منحنية أو دائرية، معقودة على الميل الدائم لدى الفنان لاستعمال الألوان الصافية. وفي كل الأحوال، لم يهمل وجيه نحلة الموضوع الذي عالجه دوماً: مسألة العلاقة بين اللوحة، وما يرتسم على مساحتها كمضون يتناسب مع الهدف الذي يبدو أنه يتكون في سياق العمل، كما تفيدنا بعض التجارب التي قام بها وجيه نحلة مباشرة أمام الجمهور، إذ يتبدل المتن ويتطور بحسب الحالة المزاجية الانفعالية.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى