مفلح العدوان وهندسة الأنماط الحضارية في (العتبات ) / د.غسان إسماعيل عبد الخالق / الأردن

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
مفلح العدوان، قاص ومسرحي وصحفي ومهندس! وقد وظف كل هذه المهارات والخبرات في روايته الأولى (العتبات)، إلى الحد الذي يمكن معه أن نقرأ بعض مشاهد روايته بوصفها قصصًا قصيرة. كما يمكن تلمس المنظور المسرحي في مشاهد أخرى. وأما الصحفي مفلح العدوان، والذي انخرط منذ سنوات في توثيق ذاكرة القرى الأردنية على نحو موسوعي، فقد تواجد من خلال شخصية (ريّان) الذي يدفعه فضوله للقدوم إلى قرية (أم العِرقان) كي يستمع إلى شهادة جدّ (خالد)؛ الراوي الحقيقي لما حدث ويحدث. وقد تكفلت معاينة (الكتلة) الصخرية مجتمعة، أو (الكتلة) الحجرية منفردة، فضلاً عن تقنيات المشهد السينمائي، بإظهار خلفيته الهندسية مهنيًا وعلميًا.
***
يمكن إدراج رواية (العتبات) للكاتب الأردني مفلح العدوان، في سياق التيار الروائي الأنثروبولوجي، الذي انخرط منذ عقدين من الزمن، في مقاربة الواقع الأردني، انطلاقًا من رصد التحوّلات التي ألمّت بنمط العيش في هذا الواقع. ومن نافل الحديث القول بأن حجر الزاوية في هذه المقاربة قد كاد ينحصر بالمكان، نظرًا لما يمكن أن يوفّره من إمكانات لأسطرة وشعرنة وعصرنة السرد الروائي. ومن نافل الحديث ايضًا، القول بأن هذا الانخراط في رصد التحولات المكانية، من شأنه أن يستدعي تلقائيًا، تلك التحوّلات التي يمكن أن تطال هوية كل من الزمان والإنسان.
وفقًا لهذا المنظور، يتصدى مفلح العدوان، لإنشاء تاريخ روائي خاص بقرية (أم العِرقان) أي (أم الكهوف)، بوصفها نموذجًا للعديد من القرى الواقعة في جنوب الأردن تحديدًا، والتي اجتازت منذ قرون حتى الآن ثلاثة أنماط من العيش:
– نمط سكان الكهوف / أو النمط الرعوي.
– نمط سكان البيوت / أو النمط الزراعي.
– نمط سكان الشقق / أو النمط المدني.
ومن الملاحظ، وفقًا لرؤية السارد، أن مشكلة الوجود والهوية تزداد تفاقمًا، كلّما ابتعد الإنسان عن التوحّد مع المكان، أو كلما اقترب من التفارق معه؛ فساكن الكهف صديق للطبيعة بالضرورة وحليف لها. بل إنه وما يملك من خيل أو ماشية، يغدو ضيفًا معززًا مكرّمًا في أحضان الطبيعة صيفًا وشتاءً. وما دام مستعدًا لاحتمال ضريبة كونه جزءًا منها وامتدادًا لها –كأن يعتاد التواجد مع الحيوانات في فصل الشتاء مثلاً- فهي لن تبخل عليه بالحماية. وما أن يشرع هذا الكائن الكهفي بالتفكير في الانفصال عن هذه الطبيعة، طمعًا في إحراز وجود مواز وهوية مفارقة، عبر فلاحة الأرض والانتقال للعيش في بيوت، حتى تفارقه هدأة البال وتتراكم همومه الوجودية تدريجيًا، ثم لا تدّخر الطبيعة وسعًا لتسديد ضرباتها القاصمة عقابًا لهذا الإنسان العاق الذي هجر أحضانها، حينما تدفع به للتخلي عما اجتهد في إحرازه وامتلاكه عبر مئات السنين، فيبيع مساحات واسعة من أراضيه الزراعية للطارئين والغرباء، لقاء سجن نفسه في شقق صغيرة خانقة تزيد من اغترابه عن نفسه وعن أمه الطبيعة.
***
ومع ضرورة النظر بعين الاعتبار الشديد، لحقيقة أن هذا المنظور، يستند تاريخيًا وانثروبولوجيًا إلى رثاء مضمر لحضارة الأنباط التي مثلت معجزة (البتراء) تتويجًا لفلسفتها القائمة على التوحد مع الطبيعة والتحالف التام معها، فإن من الضروري أيضًا التنويه بأن خسارة نمط العيش أو هدأة البال، قد كانت –وفقًا لمنطوق الرواية- نتيجة مباشرة أو غير مباشرة، لمؤثر خارجي أو عابر أجنبي؛ فمثّل المؤثر / العابر (التركي) تحديدًا، العامل الأكثر خطرًا ودموية، على صعيد زعزعة الشعور بالأمن الداخلي الفردي والجمعي، بل هو تكفّل بالإطاحة بكل ذلك اليقين الساذج الذي كانت تتمسك به (أم العِرقان).
***
وفي مضاهاة متوقعة، تضطلع المرأة في (العتبات) بدور المعادل الموضوعي للطبيعة الأم، بل هي تكاد تتقمص كل أدوارها، فتبرز بوصفها الطبيعة الحكيمة الراسخة الواثقة، وبوصفها الطبيعة الغاضبة الحانقة، وبوصفها الطبيعة العاشقة الحنونة، وبوصفها الطبيعة القلقة المتوترة، ثم بوصفها الطبيعة النائية والخرافية. لكن الأكثر إثارة للدهشة -على صعيد التكنيك الروائي- يتمثل في تفعيل تقنية المشهد السينمائي لتقديم رؤية أسطورية، وإلى الحد الذي أصرّ معه مفلح العدوان على تمييز هذه المشاهد بعناوين فرعية مستقلة، وإفرادها –مجتمعة- في مسرد خاص بالمحتويات في نهاية الرواية، خلافًا لما هو مألوف؛ إذ أن العادة جرت بإخلاء الروايات من المسارد الخاصة بالمحتويات. وهو إصرار يؤكد القصدية التامة لإشراك عين الكاميرا في تلمس ومعاينة جدلية الصخر والحجر والبشر، والإفادة من دلالات القطع والتقطيع في المشهد السينمائي، أملاً في أن يضطلع القارئ المضمر بإعادة ترتيب وتركيب المشاهد وفقًا لآليات استقباله وتأويله.
***
وليس بعيدًا عن دائرة هذه الدهشة، وربما بالتواطؤ معها، يطلق مفلح العدوان، نحيبه المكتوم هذا، تأسيسًا على مراسلات أليكترونية بين (خالد: آخر الرواة من أبناء أم العرقان) و(ريّان: آخر الشهود من وسائل الإعلام)، لتصل الدهشة حد المفارقة الحضارية التامة: ها هي أم العِرقان تتحول إلى محض سطور في رسائل أليكترونية عابرة يتبادلها شابان قلقان وفضوليان لكنهما لن يتمكنا، بحال من الأحوال، من إعادة الكائن إلى ما كان، بل إنهما أعجز من احتمال وقع ومسؤولية ومعرفة ما حدث. مع الرسائل الإليكترونية المتبادلة بين هذين الشابين، نقف على أحدث عتبات العصر الحديث، تمامًا كما وقف آباؤنا الفلاحون على العديد من عتبات العصر الزراعي، وكما وقف أجدادنا سكان الكهوف على العديد من عتبات العصر الرعوي؛ فالعتبات هنا ليست مجرّد عنوان شارح، أو مدخل عام، بل هي تكثيف رمزي وفلسفي وأنثروبولوجي، لكل تلك الحقب والأنماط التي اختبرها الآباء والأجداد، وها نحن نختبر أحدثها.. شئنا أم أبينا.