مقاربة تأويلية في «زهرة الغريب» لعبد الجواد الخنيفي: غريب في ممرات الغواية

الجسرة الثقافية الإلكترونية 

المصدر: رأي اليوم

أضحى الشعر المغربي يقدم إلى الساحة الثقافية وإلى جمهور عشاقه نماذج جديدة تحمل رؤى مغايرة ودفقا خياليا مائزا، فأثرى مدونة المنجز النصي، وكان في كثير من إصداراته إضافة نوعية، ونعدُ ديوان عبد الجواد الخنيفي من هذه الكوكبة.

نقارب هذه التجربة من منظور تأويلي يؤمن بتخلق المعاني وتجددها وانبثاقها عند كل تلق، لقد استوقفتنا صور خلال قراءتنا الجوالة في هذا السفر الشعري، استوقفتها علامات نرى أنها تشكل أهم أطياف المعنى- المحتمل- غير النهائي، و«ينصبُّ التأويل مباشرة على المعنى العام للنص الذي نشرع في قراءته، وقد يبدو للملاحظ السطحي أننا نقوم بفك رموز نص ما جملة بعد جملة، ولكننا في الواقع نؤول معنى هذه الجمل سعيا لإمكانية فهم إجمالي للنص».

وهكذا سنحاور مجموعة من الدلالات ذات الحضور والتردد اللافت وهي كالآتي: هاجس الاغتراب. الموت والرثاء. تجليات المكان. رمزية الكأس. المعجم الشعري. النفس الصوفي.

1 ـ هاجس الاغتراب:

نلحظ تردد معجم الغربة والاغتراب منذ العتبة الأولى للديوان «زهرة الغريب» فماذا تكون زهرة الغريب؟ أليست قصيدته ومعشوقته والكتابة التي يكابدها، وما الغريب سوى الشاعر الذي أضحى ظلا لا يراه أحد.

و«غربة الشاعر الحديث في الكون، ربما بسبب ما يزخر به هذا الكون من صور مثقلة بالظلمة والمرارة والإحساس بالعبث..» غير أن اقتران الزهرة بالغربة في هذا الديوان يوحي بأمرين: العشق والفقد، فما يكتبه بعشقه يمحوه الاغتراب.

تردد لفظة الغربة نجده في عناوين القصائد وفي العناوين الفرعية وفي المتن ويتجاوز البعـــد الدلالي .ليصير مكونا إيقاعيا: «غروب. الغرباء. الغبار. الغياب. اغتراب. الغريب (5 مرات). غربة (مرتين) . (الغائبين – المغيب). 

فالقارئ لا شك أنه سيشاركنا ملاحظة هذا «الغين» والراء والباء وتوزيعها على جسد الزهرة.

ما الذي تشتهيه 

يدك الوحيدة

يا من يتذكر سيرته

الآن.

قصيدة: «غيم لا يتذكرني»

ويصور غربة الشاعر، غربته الأبدية وظمأه الكوني، فالمسرة هي الرؤيا التي يحاول النورانيون القبض عليها، ومن خاض غمار الكتابة الشعرية يدرك أن الكتابة ليست هي اللحظة التي يحمل فيها الشاعر طرسه وقلمه، فتلك اللحظة هي لحظة قريبة من النهاية..

كيف أصادق العبارة 

والذين مروا قبلي

ومروا بعدي

لم يصلوا إلى المسرات

وهم القابضون

على عطشهم؟

قصيدة: «شجر هارب»

فالكتابة وجـــع وهاجس يلازم المبدع فعطشه حلمه الذي يشتهي الوصول إليه، وهي على حد تعبير اللعبي اصطدام :«الكتابة … اصطدام، مجابهة، مسيرة في المسيرة. لم تخرج منها سليما». 

مطري عطش يرعى خيوله

والحلم

شهوة ومحار 

غيم لا يتذكرني 

قصيدة: «غيم لا يتذكرني»

ونقرأ:

في آخر غربته

قهوة مرة

وحدائق مطر تضيق بالأساطير

قصيدة: «خفايا»

«فالشعر الجديد هو ما يناقض الواقع. ففي مجتمع، كالمجتمع العربي، مغترب على جميع المستويات، يجب أن يكون الشعر والفن بعامة، نقيضا للواقع، يحطم جميع أوهامه».

وتتعدد في قصيدة «مطر أخضر» صور تتمركز حول الشغف الشعري بالنور/ بالمجاز (ضوء/يركض في المغيب) فما يلوح سوى طيفه، ولا يركض إلا لرؤيته، وهو في تلك الحالات تخدعه الحياة.

حينما تحط في الغربة

يداه

يلوح بضوء الشبابيك

ويركض في المغيب

مثل خدعة الهواء

قصيدة: «مطر أخضر»

تصهر في روح التجربة دلالات الحلم والاشتهاء والعطش، وتلاحق الروح أطياف الرؤيا المخاتلة، إن الشاعر يرنو إلى القبض على مسرة القصيدة.

2 ـ الموت والرثاء:

يتألم الشاعر لفقدان شحارير الشعر، فهم الأحبة الذين حلوا وغابوا (مقابرهم- شاهدتين) فيرثيهم، ويرثي سيد الراحلين محمود درويش، والموت يمعن في غربة الشاعر وحنينه لأحبابه:

كان محمود

جسرا من اللؤلؤ

تخضر الأيام قربه

وتشرد المجرات

في لهيب الدم

(شجر هارب)

3 ـ تجليات المكان

يتجلى التوله بالمكان في «زهرة الغريب» من خلال المقاطع التالية:

(أندلسية ص: 14 ـ أصيلة ص :15 ـ باب الكلام ص:42 ـ الشرفة ص :43 ـ البيت ص :46 ـ البئر ص :50)

وقصيدة: أول الضوء المهداة إلى شفشاون

الفصول تمضي

لباب البحر بفكرتها

وأنا كيف أخفي 

دمي فيك؟

مقطع بعنوان «أصيلة» من قصيدة «فهي الظل القصي»

وفي شفشاون وعشقها يقول:

أنت أول الضوء

آخر العناق

(أول الضوء)

ترمز شفشاون للولادة /الحياة والانصهار. وتجدر الإشارة إلى أن طبيعة العلاقة بالمدينة تتميز بإعادة اكتشاف المكان قراءته وعشقه..

ويتصل المعجم الشعري اتصالا وثيقا بالمكان، فهو شديد الارتباط بتفاصيله وزواياه بأحراشه وغيومه: (الندى ـ غيمة ـثلج ـ الصنوبر ـ الوادي ـ عسل البراري قرانا الصغيرة ـ مجرى الأفق ـ البئر ـ حدائق مطر..) إنه نابع من ضباب المكان وأقاحي صباباته.

4 – رمزية النور والكأس والشوق إلى الرؤيا:

في غفوة النخيل

يشعل شمعته الوحيدة

يؤرخ أقصى مروياته

عن الكأس ولهفتها

(الرائي ـ قصيدة «في الظل القصي»)

لعل الكأس هي روح الشاعر، نفسه الظامئة المتلهفة (شعلة القلب) إلى إشراقة الرؤيا، تلك الإشراقة التي يرمز إليها، إلى جسد القصيدة وإلى روحها، إلى الغائب الخفي فيها والمنكشف المتجلي منها، برموز تنتمي إلى النور واللون والماء، ويوشح هذه الصور بدلالات: التيه والحلم والسراب والعطش.

ـ أصافح البرق البعيد /ص55 . ذاك البرق هو الرؤيا ـ (ولا يقينية في القراءة التأويلية.)

كم ثرثرة

في الهشاشة

لتنطفئ

كؤوس الكلام؟

«حالات» ص26

أكتب ظلي 

على عجل

وأهطل في الكأس «أول الضوء» ص70.

5 ـ المعجم الشعري:

المعجم الشعري لدى الخنيفي شديد الثراء والخصوبة، ومن تجلياته ـ فضلا عما ذكرناه سابقا – تردد ألفاظ: (رعشة ـ غيمة /غابات ـ سماء… خواتم… البئر… المطر.. ثلج….) وهو معجم يفيض رقة وعذوبة، ويضاف إلى هذا تعالق المعجم الشعري بالطبيعة والمحلية في أفقهما الإنساني والجمالي.(وما رصدناه في: رمزية النور والكأس والشوق إلى الرؤيا – من حقول دلالية يشير إلى ذلك الملمح) وليس ذلك بالأمر الغريب، إذا عرفنا نوع الأشعار التي تحظى بالقراءة والاهتمام من لدن شعراء منطقة الشمال، أشعار لوركا وأنطونيو ماتشادو …وبيسوا وخوان رامون خيمينث، وغيرهم ممن شكل الذائقة الشعرية والتفاعل المثري لشعرنا المغربي الحديث والمعاصر، والتقاطعات بين العناصر الطبيعية والجمالية في الشمال. والبيئة التي نشأ فيها شعراء الإسبان الذين قدمناهم كأمثلة، تقاطعات نعثر فيها على خيوط ناعمة رفيعة تؤكد تميز شعرائنا، فهم يتركون في الغالب مسافة بين التذوق والإعجاب ووضع وخصوصية الشاعر ولغته وأسلوبه. فمحمد الصباغ وعبد الكريم الطبال وأحمد الطريبق وأيضا عبد الحق بن رحمون وإيمان الخطابي وغير هؤلاء من الشعراء في دواوينهم أو في سياقات حواراتهم، ما ينم عن قراءاتهم للشعر الإسباني، وهذا أمر من البداهة بمكان، ونحن جميعا على علم بتمكن كثير من شعرائنا في الشمال من اللغة الإسبانية، ما يجعل الأبواب مشرعة أمامهم للقراءة والاطلاع على تجارب شعرية وافرة الجمال، وقصة التفاعل الشعري بين الضفتين استمرت على امتداد التاريخ، وإن أصيبت لحظات منه بأعطاب وعتمات.. ففي عهد الاستعمار الإسباني لشمال المغرب، تم تداول مجلات أدبية إسبانية كمجلة «المعتمد التي كانت تقوم بنشر نماذج من الشعر المغربي لحساسية متطلعة، فنشرت للشاعر محمد الصباغ والشعراء المقدم والبوعناني وسكيرج والسلمي، بل «يمكن القول بأن ما ظهر أواسط الستينات من مقالات بالإسبانية حول الشعر المغربي، كان يعتمد أساسا المادة الشعرية التي توفرت «المعتمد»على ترجمتها ونشرها». والشاعر محمد الصباغ كما أشار إلى ذلك حسن الورياكلي عارف بالإسبانية معجب بشعراء جيل 98 وجيل97 ويذكر نشر الصباغ لديوانه «شجرة النار» بالإسبانية قبل نشره بالعربية.

6 ـ نفس صوفي:

تلمس عند قراءتك لديوان الشاعر عبد الجواد الخنيفي «زهرة الغريب» رقة العبارة ورواؤها، إنك تقرأ شعرا عربي اللفظة، فيه ماء الخيال، ولذة السبك – مصطلح من النقد القديم ربما يكون أدق في الوصف ـ ونعثر على مقاطع شعرية ذات نفس صوفي تذكر:(الحب ـ آيات- سبحة – الغيب – القيامة – التجلي..).

يقول الشاعر:

….

ماذا يقول الحب عن الحب 

حين يبتعد عن اسمه

ويبحث عن ظلمة 

فواحة 

في سبات الروح؟ 

من قصيدة: «شجر هارب»

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى