«مكتب البريد» لبوكوفسكي.. الأنا الأخرى

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
يعرف القارئ العربي الكاتب الأميـركي تشـارلز بوكوفسكي، عبر شعره بالدرجة الأولى، إذ عديدة هي القصائد التي ترجمت له ونشرت في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية والكتب. وربما كنّا نعرف رواياته بشكل أقل، وبخاصة روايتـه «حكايـات الجنون العادي» التي تحولت إلى فيلم سينمائي وجد صدى كبيراً حين صدّروه في ثمانينيات القرن الماضي. لكن بين ذلك كله، نكاد لا نعرف باللغة العربيـة أياً من رواياتـه (على حد علمي) إذ لم تترجم سابقاً ولا واحدة منها.
من هنا يأتي مشـروع «منشـورات الجمـل» في تقديم روايات بوكوفسكي بالعربـية (بعد أن أصدرت سابقاً مختارات من شعره)، إذ صدرت حديـثاً رواية «مكتب البريـد» (ترجمـة ريم غنايم) وستصدر بعد أسابيع قليلـة رواية ثانية هي «نساء» (ترجمة شارل شهوان)، وستتبعها روايات أخرى، ما يعني أن روايات «باك» (مثلما كان يطلق عليه) ستجد امتداداً آخر، ولتقدم صورة أخرى «مختلفة» عن تلك العالقة في ذهن من قرأ شعره.
تشكل رواية «مكتب البريد»، الرواية الأولى التي نشرها تشارلز بوكوفسكي في حياته. كان ذلك العام 1971، وهو يروي فيها سيرة هانك شيناسكي حين كان يعمل في مكتب البريد. وهانك هذا يشكل بمعنى ما «الأنا الأخرى» للكاتب، أي غالبية رواياته كانت حول هذه الشخصية، وكأنه وجد فيها «الوعاء» الذي يسكب فيه كل شيء. حتى أنه يشكل مهرباً من وقوع السرد في السيرة الذاتية البحتة.
شعر بوكوفسكي، وما قرأناه عن سـيرته، أتاحا لنا معرفة الكثير من موضوعاته التي عالجها في أدبه. من هنا تبدو رواية «مكتب البريد» كأنها النواة التـي انطلـق منـها، أي أنها تحمل كل تلك «الثيمات» التي اشتغل عليها لاحقاً، في كتبه التالية مثـل: معنى الكتابة، الشعور بعدم الفائدة من العمل، الجنس (وهو أحد الموضوعـات الأساسية عنده)، الحياة على الطريقة «الهيبية».. كذلك نجد فيها الكثير من المشاهد التي عاد ليستعيدها في كتب أخرى، مثل مشهد الزواج من امرأة (من تكساس) غنية، واللقاء الذي جمعه بامرأة أنجب منها طفلة.. وهذان المشهدان، غالباً ما حضرا وشكلا مفصلا في الكتب اللاحقة.
بهذا المعنى تبدو رواية (Pulp)، هي الرواية الوحيدة لبوكوفسكي التي لا تشكل جزءاً من سيرة، إذ نحا فيها إلى كتابة رواية بوليسية، وإن كانت على طريقته الخاصة. أما الروايات الأخرى، فقد تمحورت دائماً على تفاصيل من «حيواته» (إذا جاز القول). في هذه الرواية ـ مكتب البريد ـ نجد محاولة الكاتب/ الشخصية، في البحث عن استقرار مهني، من خلال انتسابه إلى مكتب البريد، بعد أن مارس كل المهن الأخرى «غير المرغوبة». هذا الاستقرار «المشتهى»، جعله يبقى أكثر من عشر سنوات في العمل، ما أتاح له أن يكون «مراقباً» لكل الوجوه الأخرى التي تعمل معه، فقام «بتصويرها» (كتابة) عبر تلك اللمسات القاسية، المستعادة، المليئة بالهوس وبالرغبة في تقديم هذا العالم (الزبائن أيضاً) على حقيقته. عالم سادي، أليم، عصابي.. لم يجعل الكاتب ولو للحظة في أن يكون رحيماً معه. هل كان بوكوفسكي بذلك ينتقم من العالم، أم أنه في الواقع ينتقم من نفسه؟
هذا الانتقام، لو سلمنا به جدلا، يأتي أيضاً من خلال حياة شيناسكي العاطفية والغرامية، التي تحتل جزءاً لا بأس به من الرواية، لنجد عبره ثلاثة أنواع من النساء: النساء اللواتي وسَمن حياته، النساء اللواتي عرف معهن المتعة التي امتدت لفترة طويلة، والنساء اللواتي شكلن في النهاية مغامرة سرابية لم يتبق منها أي شيء سوى ذكرى عابرة.
من الممتع أن نقرأ بوكوفسكي في روايته الأولى، وكأن ذلك يحدد لنا كل العوالم التي جعلته حاضراً في الأدب الأميركي المعاصر، دفعة واحدة.