منحوتات صفاء الست.. مخيلة ترتجل سجناً

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أحمد بزون
المصدر: السفير
تبتعد الفنانة السورية صفاء الست، في هذا المعرض الجديد لها، عن النحت كعمل غرافيكي تتفنن فيه في صوغ أفكارها، وتغريبها، وتأنيقها، كما حصل مثلًا في معارض سابقة، تفننت فيها في خلق تصاميم لحذاء معدني عملاق للمرأة، أو لتشكيلات من الرقص، أو سوى ذلك من الأشكال التي تعتمد بشكل أساسي على خطوط غرافيكية تنفذها فنانة رقيقة بالحديد… لتنتقل هذه المرة إلى تعبيرية تتكثف فيها التراكيب والمفردات الشكلية، بتركيز أكثر على خدمة الفكرة الأساسية التي تستظل بما يجري في سوريا من تمزق داخلي، ينعكس في المنحوتة أشكالًا تتماهى مع الكآبة والانكسار، مع قليل من الكابوسية البعيدة عن المباشر أو خطاب العنف. من دون أن تطلق الفنانة الصياغات الغرافيكية التي تسلي العين وتفتنها، وتترك مجالًا للعب الكثير التنوع مع الأفكار المسكونة بأحزان الوطن.
في معرضها الذي تقيمه الفنانة في غاليري Art On 56th (الجميزة) لغاية 26 شباط الجاري، تعرض 15 عملاً نحتيًّا تركيبيًا مشغولًا بالحديد، الذي يتنوع بين براغٍ مختلفة الأشكال والأنواع، وقطع من صفائح معدنية، وقطع مهملة من سيارات وآلات، وإلى ما يخطر ببالٍ، من الأشكال التي تتفنن في تركيبها على شكل ناس وحيوانات، ومخلوقات طوطمية غريبة.
يحمل المعرض عنوان «برميل أصفر»، وهي بالفعل تضع في إحدى زوايا المعرض برميلًا أصفر تثبّت فوقه راقصة، قد ترمز إلى الرقص فوق القمامة أو الحواجز العسكرية. على أن هذه المنحوتة هي الأكثر تفاؤلًا في المعرض، لنتنقل بين أعمال تضج بمصائب أقلها السجن، فموضوع المعرض الأساسي هو القفص، قفص السجن، أو قفص العصافير، أو القفص الصدري الذي تنحبس فيه الأنفاس. فالقفص رمز أو مفردة تتكرر في غالبية أعمال المعرض، على شكل قضبان معدنية دقيقة تتشابك لتوحي بمعنى السجن، الذي يؤوي المظلومين لا المجرمين، أو الوطن، السجن الكبير، الذي لا يمكن الهرب منه.
لم تبنِ الفنانة الست شخوصها من أشكال مبسطة، إنما نجدها تركّب الأشكال من قطع تركبها فوق بعضها، لتجسم بها تفاصيل الجسد، من دون أن تعلق بالتشخيص الصريح والأنيق بالطبع، همها أن توصل فكرتها بأسلوب أقرب إلى اللعب على الجسر الذي يصل التجريد بالتشخيص، فهنا رجل مقطوع الرجل، وثانٍ مفتوح الصدر، وثالث اخترقت عنقه نبلة… وهناك رجل تحول رأسه إلى قفص عصافير، وثان تخرج العصافير من جوفه، وثالث مغلول اليد… وكلها تعبّر عما يجول في خاطر الفنانة من مشاهد أرادت أن تختصرها بأولئك الشخوص، الذين تغلب عليهم ملامح ضحايا الحرب والمعوقين والمنكسرين.
تتعامل الست مع المعدن كمادة مطواعة، فهي لا تطويه ولا تشكله، ولا ترسم به خطوط الشكل بقدر من تشكل مجسماتها بفعل التركيب. أي أنها تلوي الأجساد والمفاصل من خلال أسلوبها في تلحيم القطع، لتتحكم بقسوة المعدن، ويتحول الشكل إلى لعبة «بازل» حرة، قوامها اختيار القطعة أو الشكل أو الحجم أو اللون المناسب في المكان المناسب. من دون أن تكون اللعبة جاهزة بالطبع، فالفنانة هي التي تتحكم في تفاصيل اللعبة، وهي التي تأتي بالأشكال من مخيلة حرة لا تكرر نفسها، تسمح بالكثير من الأداء الارتجالي. وأهم ما يمكن أن نلاحظه في تلك المنحوتات، أننا أمام شفافية ذكية، استطاعت الفنانة أن تقدم من خلالها منحوتة معدنية ثلاثية الأبعاد وشفافة في آن، وهذا ما نضعه في قمة التخييل الفني. حدث ذلك عندما استخدمت التجسيم من خلال الشباك القفصية، التي نرى من خلالها ما في جوف الشخوص، أو حتى ما وراءهم. نرى السجن في صدر الشخص أو في رأسه أو في يده، وخارجه… وقد تمتد آلام السجن إلى الأطراف، إلى أن يتحول الجسد كله إلى تشابك معدني شفاف، يجمع بين فكرة السجن الذي يحتل الجسد كله ولعبة تشفيف الجسد حتى افتضاح شوائبه.
تلعب الست بالمعدن لتحوله إلى مسرح خيال فالت من سجون واقع مرّ.