منفى فوزي كريم بصفته «الربع الخالي»

الجسرة الثقافية الالكترونية
*علي عبد الأمير
المصدر: الحياة
ما انفكت تجربة الشاعر العراقي، فوزي كريم، تؤكد ثراء مسارها وصوتها الخاص، فهي تجربة «الشاعر الوحيد»، يوم كانت القصيدة «انتظاماً جماعياً»، لا بين جيله الستيني «الشديد الصخب» في العراق، بل عربياً أيضاً. وإذا كانت حاله على هذا النحو الخاص، في أيام صعود الصوت الثوري الجماعي، فكيف بها وقد مضى العصر في دروب الانهيارات والمنافي والخراب المادي والمعنوي للبلدان والبشر؟
وفي جديد تجربة الشاعر «المرتاب» من اليقينيات التقليدية عن الثورات أيام «الانتصارات»، ديوانه «الربع الخالي وقصائد أخرى» الصادر عن «دار المدى»، وفيه مساران يمكن تتبع آثارهما التعبيرية والتصويرية، الأول هو تتبع صورة المنفى (إقامة الشاعر في لندن)، لجهة الاغتراب المكاني والوجداني أيضاً، والثاني هو في استنهاض المشاعر المحتفية بتفاصيل الحياة والأفكار كنوع من الردع للمسار الأول، أو على الأقل مشاغلته وتقليل قدرته على الهدم.
وإذا كان صاحب هذه السطور، قرأ تجربة الشاعر التي بدأت من التأمل في مشهد الذات والعالم عبر مجموعته الأولى «حيث تبدأ الأشياء»، وانتقلت إلى إعلاء صوت الرفض لمسارات الزيف ومحاولات إلغاء الوجود الإنساني الحي في الثانية «أرفع يدي احتجاجاً»، وبصوت أعمق ألما في الثالثة «جنون من حجر»، إلا أن فوزي كريم، ظل، على رغم شيوع «صوت الرفض»، صوتاً شعرياً على حدة. فهو أبلغ معنى «إحتجاجه» وحيداً، وهو ما كان أميناً عليه في ديوانه الجديد، فمع مئات النصوص التي كتبها شعراء عراقيون عن المنفى، إلا أن ما اجترحه كريم، مختلف تماماً وهو نسيج ذاته حقاً. فعوضاً عن الشكوى والأنين والغضب والقسوة، صاغ فكرته العميقة عن المنفى عبر معادلة: ما يقصيه المنفى من عوالم مألوفة (هدم)، بمقابل الاحتفاء الانساني بالنأي والتمعن بجدوى العيش وفق صيغة جمالية شعرية (بناء).
وفي هذه المعادلة، يقدم صاحب ديوان «قارات الأوبئة»، قصيدتين من طراز قلما يتوافر عليهما العقد الأخير في المشهد الشعري العراقي، لجهة الاحكام في البناء، والانسجام حد التلقائية في التعبير وصورته شعرياً عبر اللغة، إنهما قصيدتا «أسافر للمرة الألف» و»الربع الخالي» التي أعارت الديوان عنوانه الأبرز. في الأولى، يجد القارئ نفسه وسط برودة قاسية لا تحتاج جهداً كبيراً في إحالة دلالتها إلى ما يعنيه المنفى:
«أسفار للمرة الألف/ في غرفة الفندق المتواضع ألقي الحقيبة/ أفتح للمرة الألف نافذة وأحدّق، أبصرني في الرصيف المقابل أسحب خلفي الحقيبة تحت المطر».
هنا ليس الانفصال بين الشاعر وقرينه (أبصرني)، هنا التشتت حد ضياع النفس وهي تقاوم «أصبح شطرين/ تنهكني رغبة الطيران بجنحين نحو اتجاهين مختلفين». هنا يضعنا الشاعر في لجة هذا الانشغال القاسي والممض، فالمنفى ما أقساه، إذ يكون «الطيران بجنحين نحو اتجاهين مختلفين»، المكان الاصلي وطين تكوينه / الاتجاه الأول، والمكان الجديد بغربته واغترابه/ الاتجاه الثاني المعاكس.
هذا عيش باهظ الكلفة، حد أنه يجعل الشاعر متوزعاً ما بين هنا (المنفى): «وإن سكنت فيّ إغفاءة/ وحلّق من عشها طائر الحلم» وما هو حقيقي هناك (البلاد): «أرى وطني يتضور جوعاً/ وكل لقاح الحقول فقاقيع في الريح، سرعان ما تتفجر، كل النخيل/ شواهد موتى أقاموا، واخرى شواهد للنازحين/ أراه هياكل عظمية تتأرجح فوق حبال الغسيل». وهنا يبدأ فصل «الهناك» بوصفه طارداً وجاذباً في آن: «تراني استدرت إليه أودّعه، أم تراه استدار وخلّفني أتضور جوعاً»؟ وليسرد الشاعر ملامح هناءات بسيطة وحانية عن عيشه ببغداد يوم كانت مترعة بالأحلام والنسيم، لكنه يصطدم في كل مرة بما يؤكد له أنه مضى بعيداً حد النأي: «يذكّرني كلّ مبنى هنا عامر، كلّ دار لأوبرا، المتاحف، الأنفاق، بيتي، بأني … بعيد».
ما يمكن افتقاده حقاً في هذه القصيدة، هو الغنائية التي تميز قصائد فوزي كريم، وتضحيته هنا بالتفعيلة، لصالح «قصيدة النثر» حتى وإن كانت مبررة فنياً، انطلاقاً من التشتت الذي يعنيه المنفى، لا تبدو بذلك الدفق الايقاعي الذي لمع بين قصيدة وأخرى في الديوان، الذي اكتمل عمقه في القصيدة الطويلة الثانية، فإذا كانت الأولى «أسافر للمرة الألف» هي الرحلة من المنفى وإليه، فإن «الربع الخالي»، هي المنفى دلالة ونبضاً حقيقياً، فهو حتى عند ضفاف البحيرات الباردة يتساءل: «علّ الأسماك/ تشهد لي أن مياه النهرين/ ما زالت عالقة بثيابي».
وللشاعر كتاب نثري مبكر يتضمن إضاءات في وعي الثقافة ونقد نتاجها الأدبي، حمل عنوان «من الغربة حتى وعي الغربة»، وتبدو قصيدة «الربع الخالي» بل الديوان في متنه الأبرز، وقد طابقت العنونة ودلالاتها، ولكن مع المنفى هذه المرة عوضاً عن «الغربة»، حتى يصيح أن نصفه بأنه كتاب «من المنفى حتى وعي المنفى»، جاء شعراً عميقاً، فيه اختمار الحياة والأفكار حتى تخوم الحكمة المفتقدة دائماً عند أي شاعر «الشعر مدين لي بضياع الهدف. مدين لي بالسهم الطائش»، حتى وإن استدرك كي يبادل الشعر الديّن: «وأنا للشعر مدين بعصي الألم، تقود خطاي إلى منفاي/ وبريح الحمى تعزف أغنية في أنقاضي/ ميراث أبينا في هذا المنفى، لا في ذاك الماضي»، وهنا يأتي الأسى غناء لفرط ما رقّت القافية هنا وانسجمت.
ولأنها قصيدة مركبة على أكثر من مسار: غنائي حان، وصفي ضمن سرد يجمع بين الرؤى والواقعي، يأتي وفق شكل التدوير كما في المقطع الثالث من القصيدة المكونة من تسع، وآخر يعود فيه إلى (القرين):
«بي شخص ثان، يحلو لي أن أقحمه/ في ربعي «الخالي» إذ ينتصف الليل/ و»الربع الخالي» كثبان، ريح وسراب/ فاجأني تحت حجاب الصدر الحاجز يوم حللت بهذا البلد».
إنه المنفى، «الربع الخالي» الكوني هذه المرة، وحياله تنأى النفوس وترهق الأفكار والبصائر، حد أن الشاعر يودع هذه الرحلة « لتنامي أيتها العين المرهقة/ وبرقة وسلام جناحين/ لفراشة حقل فلترخي الجفنين، فأنا أيتها الدنيا، لن أمكث معك، وثلاثاً طلقتك/ ما من شيء في هذا المنفى غير البؤس».
إنه «المتمرد الحزين» بامتياز في مشهد شعري عراقي تواصل لنحو 3 عقود، قبل أن يتغلب الحزن فيه على التمرد، فيقول «أحنو على أمنا الأرض، أرثي ابن آدم، أغدو خرائب».