منى كريم تبحث عن الأصوات المفقودة في ‘اسمعي’

شادي علاء الدين
يلاحظ المشاهد للفيلم اللبناني الجديد “اسمعي” للمخرج فيليب عرقتنجي عن سيناريو مشترك بينه وبين الكاتبة اللبنانية منى كريّم قوة التركيز على الصوت وأهميته، ومحاولة إعادة تركيب بيروت المدينة المتداعية بعلاقاتها والقصص التي تجري في شوارعها وأحيائها، انطلاقا من عملية بحث شاقة وحميمة عن أصواتها المفقودة.
وحدها الأصوات قادرة على إنقاذ المدينة-المرأة، ووحدها قادرة على إخراجها من سباتها العميق، فتجربة الإنصات التي يقترحها الفيلم كمدخل لطرح قضايا الحرية، والمرأة، والحب، والسياسة، جعلت الفيلم مختبرا للحواس والمعاني التي نلتقطها وننتجها بشكل أولي وتلقائي بعيدا عن أي تأثيرات.
الصوت هو الشخصيات
الصوت هو عالم الخاص والحميم المفقود، لأنه يسمح لكل من يتلقاه بتأليف شبكة معان خاصة به، ويترك له الحق في اختيار كيفية مشاركة الآخرين فيها. ويحرص الفيلم على تقديم الصوت في إطار رمزية التعدد والرحابة، فالصوت هو نتيجة التقاء مجموعة من المؤثرات وتفاعلها مع بعضها البعض.
تلتقي الريح بسطح الماء فيخلق صوت البحر، وتلتقي بالشجر فتتحول كل شجرة إلى آلة موسيقية خاصة قادرة على أن تقدم بنية سيمفونية.
حول الصوت وبنية الفيلم وتركيب الشخصيات كان لنا لقاء مع منى كريّم كاتبة سيناريو الفيلم والتي كشفت لـ”للعرب” عن ملامح هذه التجربة وخصوصيتها. تعتبر الكاتبة أن “الشخصيات المهمة بالنسبة إلينا في الفيلم كانت الصوت، لذلك ركزنا بشكل كبير على الأصوات الآتية من جميع المحاور، لم يكن التركيز منصبا على تصوير مسار حدث ينطلق من الأحاسيس بقدر ما حرصنا على إظهار الصوت في تفاعله مع الصور ومع المتلقي، سعينا لأن نقدم فيلما لا يرى فقط، ولكنه يسمع أيضا، فقليلة هي الأفلام المسموعة، ومن هنا يضم الفيلم مقاطع كثيرة لا تظهر فيها أحاسيس البطل أو البطلة، بل نسمع الأصوات وهي ميزة أجواء الفيلم”.
وتسرد كريّم قصة نشوء السيناريو، لافتة إلى أن تجربتها في كتابة السيناريو هي الأولى، وتشرح مراحل نشوء عملية الكتابة وتطورها قائلة “كانت هناك قصة جاهزة على شكل ملخص، عرضها عليّ المخرج فيليب عرقتنجي. المحور كان موجودا وكنا نلتقي أنا وفيليب ونكتب سوية. حبكنا القصة وعملنا على بناء الشخصيات وكيفية إظهارها. فيليب يركز كثيرا على الصور، لأنه صاحب نظرة سينمائية، وحرصت من جهتي قدر الإمكان على ترجمة ما يريد إظهاره عبر السيناريو”.
كتب فيليب عرقتنجي بعض الأفكار التي كانت تعنيه والتي أراد أن يعبر عنها بنفسه، وكانا يناقشان سويا الأفكار، ثم يكتب أحدهما تلك الأفكار، ليعودا إلى بلورتها بعد النقاش، كمن يلعبان كرة الطاولة.
وتضيف كريّم “المادة البصرية أو التصور البصري كان النقطة التي انطلقنا منها إلى السيناريو. مثلا بعد لقاء جود ورنا (أبطال الفيلم)، وفي هذه اللقطة الحميمة التي يمكن أن نقول إنها توجت قصتهما، كان فيليب يراهما جالسين على التلة مقابل بيروت وكنت موجودة في كل تفاصيل اللقطة. كان فيليب يحرص على إظهارها لنعمل على تركيب السيناريو المناسب لهذه اللقطة”.
وتشير كريّم إلى أن السيناريو كتب للممثلين الذين تم اختيارهم، وأنه “منذ البداية واكبنا اختيار الممثلين، ومن البداية كتبت للممثلين أنفسهم. فيليب اختار هادي بوعياش وأنا كتبت السيناريو المناسب لهادي الذي يظهره بطريقة مناسبة وعفوية، كنا نعمل على تغيير أداء الممثل بشكل يناسب الدور، وأيضا بالنسبة إلى يارا بونصار، وهذا ساعدنا كثيرا”.
تلفت الكاتبة إلى أن “ما كنا نريده في الأساس هو كتابة قصة حب، نظهر من خلالها أهمية السمع، وإيجاد أشخاص يتناسبون مع قصة الحب التي لم تعد تحدث في مناخ من السهولة والرومانسية. جود كان يصفه المخرج في الفيلم بأنه بسيط، والمرأة هي التي فتحته على الحياة”.
وتسترسل موضحة “هذا كان مهما، لأن الكثير من الأمور الموجودة عند الرجل من قبيل السمع والتقبل والأنثوية يتم التهرب منها، لأنها تعتبر مخجلة في مجتمعاتنا، نحن وعلى العكس من هذه النظرة، حرصنا على تصويرها بأنها شيء يخدم القصص الجميلة، بقي الرجل هو البطل في الفيلم مع وجود صفة المبادرة لدى المرأة”.
“اليوم لم تعد الأمور تقليدية كما كانت من قبل”، تضيف كريّم، “خصوصا عند الشباب في هذا العمر، نحن لم نعد من هذا الجيل سواء أنا أو فيليب، لكننا سمعنا للكثير مما يقوله الشباب والطريقة التي يعيشون بها، فيليب دائما لديه رسائل يعمل على إيصالها، من ضمنها موضوع المرأة، وموقعها في المجتمع، وحريتها، والمطالبة بحقوقها، جربنا ألا تطغى هذه الرسائل على القصة، ولكن مع الحرص على أن تكون حاضرة بشكل دائم”.
الموسيقى المفقودة
كان لجوء الفيلم إلى اختيار الكلام والأصوات المرتبطة بالطبيعة للتعبير عن رؤيته الصوتية لافتا، وخصوصا لناحية تجنبه الاعتماد على الموسيقى على الرغم من محمولها الصوتي الضخم والفاعل.
وتعود أسباب عدم اعتماد الموسيقى كخيار في الفيلم، وفق كريّم إلى أن “الموسيقى هي فعلا شائعة، ومن السهل كثيرا أن تعبر عن المشاعر، وهي ليست متحدية فعلا. الجميع يسمع الموسيقى في حين لم يعد الناس يسمعون أصوات الطبيعة، هذه هي الموسيقى المفقودة إذن”.
وتضيف السيناريست اللبنانية “لم يعد الإنسان قادرا على سماع أصوات الطبيعة المفرحة، ولم يعد يسمع من أصوات المدينة سوى ما هو مزعج، مع أن المدينة بضجيجها هي الحياة ونحن محتاجون إليها، أردنا أن نترك للمشاهد أن يقرر ما يريد أن يراه في النهاية، فعملنا على أكثر من طبقة لنترك له هذه الحرية، القصة يمكن أن تحصل في أي مكان ليس فقط في بيروت، لكننا لم نستخدم بيروت عبثا، لأن بيروت بحد ذاتها هي مدينة تفرض علاقة معقدة معها، نسأم منها ونعزها ونحبها في الوقت نفسه، لا نستطيع أن نخرج منها وأول ما نشتاق إليه حين نخرج من لبنان هو الضجيج في بيروت، وليست فقط بيروت كمشهدية، الحياة النابضة في بيروت هي ما نشتاق إليه، وفي الوقت نفسه حين نكون في بيروت ننزعج من هذه الأصوات، علاقتنا ببيروت ليست سهلة على الإطلاق”.
“الأصوات تحاكي الإنسان داخلنا، وليست فقط المرأة” تقول كريّم، وموضوع المرأة بالنسبة إلى فيليب كان هدفه “أن نعيد لها مكانتها، وأن نستمع إليها، وكل الحبكة كانت موصولة بقضية المرأة التي كانت حاضرة على الدوام بشكل غير مباشر”.
تلفت كريّم إلى خصوصية السمع، وتؤكد أنه “علميا حاسة السمع تكون موجودة عند الأشخاص في الغيبوبة، ومن موقع عملي في تقويم النطق وعلى حالات لأشخاص يعانون من إصابات في الدماغ، ودائما، كانت أبرز النصائح التي نعطيها للأهل تقضي بضرورة التحدث مع الشخص حتى إذا بدا وكأنه غير موجود، لأننا نعلم أن شيئا ما سيصل له عبر السمع، فكرة أن نعيد الشخص عبر الصوت موجودة فعلا، نوعية الأصوات التي اخترناها فريدة، لم نكن تقليديين عبر الموسيقى أو المناجاة، أردنا التعبير عن الحياة بشكل واسع أكثر”.
أداء الممثلين
الممثلون في الفيلم كانوا يشبهون الشخصيات، يارا أبونصار كانت مميزة جدا، نراها في الأول كخيالات ثم نراها كما ينظر لها جود، تنقل جملة من المعاني والأحاسيس المختلفة في الفيلم. رنا شخصيتها كالحياة النابضة، وهي كالحياة ليست دوما منطقية وفيها الكثير من الجنون، حتى في ردة فعل جود الذي كان مستغربا لشخصيتها ومشدودا لها في الوقت نفسه. جود شخصية لا تعبر كثيرا، وليس منبسطا، كان مرتبكا بين ما يقوله له الآخرون وبين ما يحسه بعد أن وجدها.
وتؤكد كريّم أن أداء الممثلين كانت له أصداء إيجابية، معتبرة أن “الممثلين قدموا شخصيات جديدة استطاعت التعبير عن الفيلم بشكل كبير”.
وتقرأ كريّم طبيعة العلاقة مع الغرب، كما حرص الفيلم على إظهارها بوصفها جدلية تعكس صراع هويات، مشيرة إلى أن “المخرج قضى الكثير من الوقت بين أميركا وفرنسا، وكل أفلامه ليست لها علاقة بهذا الجو”.
وتضيف الكاتبة اللبنانية “عشت من جهتي عشرين عاما في فرنسا، لدينا في داخلنا هذا الغرب الذي يشدنا، وحين نذهب لا نشعر بالارتياح مطلقا، فنعود إلى لبنان، الشباب يرددون دوما أنهم يريدون العيش مثل الغرب، هو واقع قائم عند الشباب لا نستطيع تخطيه، وعلاقتنا به هي علاقة غير واضحة، من جهة نرى لبنان أجمل البلاد ومن جهة أخرى نريد التشبه بالغرب، علاقة الشباب مع حياتهم هي علاقة مشوشة بين أن تكون مثل الغرب أو أن تكون مختلفا عنه، لدينا عقدة نقص في شعوبنا، وهو الانفصام الذي نراه في الفيلم”.
تعبّر الكاتبة عن أسفها لحصر النقاش حول الفيلم في موضوع الرقابة، وتعتبر أن النقاش يجب أن ينطلق من كون الفيلم يقدم “مادة مختلفة عما تعود عليه الجمهور في السابق، ونمطا مختلفا”.
وتأمل في نهاية حديثها أن ينجح الفيلم في إيصال المناخ الذي حرص كل فريق العمل على بثه، لافتة إلى أن الفيلم “أنجز بالكثير من المحبة، وكلنا أحس بأنه مسؤول عن هذه القصة بنفسه، وهذا النوع من الأفلام يخرج منه وقد غير فيك شيئا”.
وتؤكد منى كريّم أن “ما نحلم بالوصول إليه، هو وضع المشاهد أمام موقف لا يكون فيه مجرد متلق للفكرة، بل تحويله إلى شريك في صناعتها”.
(العرب)