موت المهدي المنجرة بين فداحة الفقد وألم التهميش د. أنوار بنيعيش

الجسرة الثقفاية الالكترونية – وكالات -ألفنا في السنوات الأخيرة أن نسمع بمرض أحد الفنانين أو المبدعين الذين لم يسعفهم الحظ في توفير ما يقوم بأودهم، والمجهودات التي كانت تلجأ إليها، تحت ومضات الكاميرات وآلات التصوير بعض الجهات للتخفيف من معاناتهم في مراحلهم الأخيرة، وفي طريقهم المعتم نحو النهاية، وكنا في كل مرة نستثير الأسئلة المسكوت عنها، ونحاور عنصر الإهمال الذي أصبح سمة في مجتمعاتنا العربية، ثم ما نلبث أن ننسى أو نتناسى هذه المآسي إلى حين. لكن ما وقع قبل أيام، زلزلنا في العمق وجعلنا نستحث الخطى لنبحث عن منطق في واقع يأبى أن يلامس المنطق في كل فعل أو عمل، هذا الحدث المزلزل هو خبر موت العالم المستقبلي المغربي المرحوم «المهدي المنجرة».
كان الخبر يصلنا بنبرة خافتة ويحضر في الإعلام البديل أكثر من حضوره في الإعلام الرسمي، فوصلنا مأساويًا في دلالاته إلى أبعد الحدود . وصلنا في صورة سيارة صغيرة تحمل جسداً مسجى مع شخصين مرافقين وفوق الصورة خبر النعي. كانت الصورة على الرغم – من جزئيتها- صارخة بمظاهر الإهمال والتهميش، وكأن الخبر في فجاءته أقوى دلالة وأمَرّ من حيث إشارته إلى تغييب وإقصاءٍ لهرِمِ لا ينسى؛ هرم وُجِدَ في المكان والمجتمع الخطأ؛ مجتمع ألف تسليط الأضواء، وإغداق الأموال على حالات التفاهة والسخافة؛ مجتمع ألف في جانب كبير منه أن يصفق للوصوليين والانتهازيين ويعبأ بالصور المستنسخة المتلاشية، ويتناسى الأصول الحقيقية للفكر والإبداع والإخلاص لهذا الوطن، مجتمع ضيًّع على نفسه فرصاَ لا تعوض في الاستفادة من عقول وُهِبَتْ له رحمةَ وأطواق نجاة، فأبى أن يتمسك بها، وتجاهلها، متحلقا حول جزر الوهم وأشباه السراب وسفن الأشباح؛
نتذكر الآن المنجرة فنسترجع كل تلك المقالات والكتب التي حذّر فيها، وندًّد وخاطب في محبًّة وإخلاص؛ كتب مهداة إلى واقعنا العربي الذي تألم كثيراً وهو يرصد اندحاره وانهياره، ونومتنا الهادئة المطمئنة متناسين الحقائق والمؤشرات الصارخة، لأننا في بؤرة العدم والتلاشي مصيرنا إذا لم نتدارك ونتحرك وننقذ رمق الحياة قبل ماء الوجه؛ كان يتكلم عن ذلك وشبهه بحرقة ظاهرة وبمحبة غامرة لمجتمع أبى أن يغادره إلى الأبد ويقطع صلاته به- وكانت الهجرة أيسر شيء بالنسبة لعقل من العيار الثقيل خبر دواليب العمل السياسي، واستوعب الخطابات الدولية- وظل يرفع صوته بضرورة التغيير، وضرورة التخطيط ووضع لبنات المستقبل البعيد، في منظومة الآني وفق استراتيجيات دقيقة. كان يخاطبه بكل حرارة المُحِبّ وغيرة المخلص، وفكر العالم المتنوّر الذي درب الحياة، وفرض احترامه على الكل، وأنصتت له الشعوب والبلدان القوية قبل الضعيفة والهشة؛ كان صوته يعلو صادحاَ في أمريكا واليابان….وهناك حيث الحكمة تقدر حتى ولو أتت من الأعداء… لكننا لم نتعود الإنصات لهؤلاء وأمثاله، ربما لأنهم يعرّون حقائقنا، ويضعوننا أمام مرايا موازية تنزع عنا كل مظاهر التبرج، وتجلو على صفحاتها الصقيلة حقائق مرعبة، وتضع أمامنا سنوات طوال إن أردنا تغيير بعضها، أوتجميله.
لقد كان المنجرة الصوت الذي طالما تطوع لإسماع رنات الخطر والمأساة، ودروب التيه التي تتخبط فيها الشعوب العربية، ينقل لنا ـــــ رغم ذلك ــــ بذور التفاؤل عبر تمهيد الطريق لمقاومة انجراف القيم والأخلاق، والفكر….كان يضع خارطة طريق لقيم عولمية قادرة على جعلنا ـــ نحن البسطاء الضعاف- أكثر صرامة وقدرة على المجابهة. وأولى المواجهات، طبعاً، مواجهة الذات والاعتراف بالأخطاء والإصرار على تجاوزها، وعلى تحطيم الطوق الدائري الذي نختنق به كلما شبَّت عزائمنا وانتعشت ضمائرنا.
كان عَرًّافنا المخلص الذي ينذر ليحذّر، ويدفع لتجنب الكارثة؛ عرًّافنا الذي آمن بقيمنا وهويتنا الخاصة: قيم الإسلام والعروبة والمحبة وكل ما هو جميل؛ يستصرخ فينا بنبوءاته المستقبلية ما تبقى من أجزائنا المتكسرة، وما بقي من أشلاء فكرنا الذي دمرته الحروب والصراعات، وكياننا الذي قُطِّع ورميت أجزاؤه في الأودية السحيقة والجبال الشاهقة خوفاَ من تضامّها وثورتها. كان عرَّافاً يصوغ تنبوءاته بالعلم والمنطق ويرسم الصورة تلو الصورة للمستقبل وللبدائل التي طالما نادى من أجل تبنيها؛ كان يصرخ بنا صراخاً مؤلماً لا يحمل مداراة ولا أصباغ؛ كان الصوت الذي ينبهنا إلى الهاوية التي تجثم بجوارنا على خطوط تماس رفيعة وإلى أننا واقعون فيها لا محالة إن لم نغيّر الفكر والموقف ونعيد البناء.
ولكن هذا الصوت المخلص يتوارى عنا إلى الأبد جسداُ وحُبًّا وفكراً وإنساناً اعتدنا على وجوده الرائع بيننا ليرشدنا كلما أخطأنا الطريق وما أكثر ما نفعل. الآن نفتقد هذا الصوت، ونحن في حالة ذهول، ونحن نرى العالم أكلح مما كان بفقده، فنشعر بهذا الفقد، ونتألم له كما لم نتألم من قبل. نتألم ونحار حيرة من فقد البوصلة في بحار لا تنتهي من التيه، حيث لا شيء يبقى ثابتا ولا شيء ينبئ عن اليابسة إلا تلك الأضواء، والنجوم الخالدة التي خلفت نورها على مسافات ضوئية من هممنا وأحلامنا، فنستصعب الوصول إليها، دون أن نفقد الأمل في وصول ضوئها الهادي إلينا في كل وقت وحين إن فتحنا قلوبنا وعقولنا لنداءاتها وبريقها الأخاذ.
ومع مرارة الفقد وعنف اللحظة وهول الواقعة يعصرنا ألم آخر قاتل لا يرحم ؛ ألم ولّده التهميش الذي لحق الحدث وآثر أن يصاحب الرجل/ الهرم في بلده حيًّا وميِّتاً، فمع هاته الصورة القاتمة لجحود غير مبرر تنهار الكثير من الجسور، ويزداد شعورنا بالمرارة، ونقترب من الموت الفعلي بخطوات، وتشمخ آلامنا للفقد كما شمخت للتهميش، فالرجل من العيار الثقيل، من صنف الرجال الذين لا يجود الزمان بأمثالهم إلا في استثناءات تتجاوب مع حاجات وضرورات التجديد؛ من صنف الِعظام الذين يجب أن ننصت إلى أصواتهم لنهتدي في حوالك الأيام، ونركب قطار الحياة السريع في آخر اللحظات، لنحول سوداوية الواقع إلى أمل وتفاؤل بالغد البعيد الذي نصنعه بأيدينا اليوم.
لاشيء يمكن أن يخمد هذا الألم المزدوج، وهذا اليتم الذي تلبس بفئة المخلصين المثقفين في مجتمعنا العربي بموت الرجل، وبتهميشه -عن عمد- في لحظات الحياة كما الوفاة. لكن عزاءنا في أن مثل هؤلاء النجوم قد وُجِدُوا ليبقوا منارات، وأن تهميشنا لهم في لحظات سنوات، نؤدي ثمنه غالياً ندماً وسيؤثر علينا وعلى مسارنا، لكنه مع كل ذلك سيُبقي دواخلنا ودواخل المخلصين مُتّقِدة حرقة على واقع من الممكن تغييره مستقبلاَ لو بدأنا العمل اليوم، وعلى صرح يناطح السماء يمكن أن يكون لنا لو أخذنا الرفش والمعول وبدأنا نحفر الصخر استعداداً لوضع الأساسات.
لك الله أيها الصوت الحكيم، فما مات من ترك علماً ينتفع به ونوراً يُهْتَدَى به في الظلمات الحالكة؛ نفتقدك كلما دهستنا عجلات الزمن جهلا تارة وعصبية أخرى، وشراُ دفيناَ ثالثة؛ لكن سنتلمس كلماتك حاضرة في من يعمل بها، ومن استفاد منها، ونستعد كامل الاستعداد لنراك في النجوم الباهرة صوت إرشاد وتوجيه ونصيحة تتخطى الموت والتهميش وتخفف أثر الفقد، «فإنا لله وإنا إليه راجعون».