“موسم أصيلة الثقافي”: جنة للغرباء فقط؟

الجسرة الثقافية الالكترونية-العربي الجديد-

 

تعكّر صفو افتتاح الدورة السادسة والثلاثين من “موسم أصيلة الثقافي”، أحد أعرق وأضخم المهرجانات المغربية والعربية، بوقفة احتجاجية لمجموعة من الناشطين والفاعلين الجمعويين ضد تنظيم هذه الفعالية وضد رئيسها، محمد بن عيسى، الذي يشغل أيضاً منصب عمدة المدينة منذ ثلاثين عاماً. وكانت قوى الأمن قد تدخلت لتفريق هذه الوقفة قرب “مكتبة بندر بن سلطان”، وسط المدينة، ما أسفر عن سقوط جرحى واعتقال عدد من المحتجين والمحتجات أُطلق سراحهم في وقت لاحق. ويثير هذا الاحتجاج الذي ما فتئ يتصاعد في الأعوام الأخيرة، بوادر تحول جوهري في العلاقة بين المهرجان، الذي انطلقت فعاليته في الثامن من آب/ أغسطس الجاري، وبيئته الحاضنة. إذ ترتبط أصيلة، الواقعة على المحيط الأطلسي شمال غرب البلاد، منذ ستة وثلاثين عاماً بهذا المهرجان الذي يعود له الفضل، من وجهة نظر كثيرين، في ترسيخ سمعة واسم المدينة مغربياً وعربياً ودولياً. كما أن المهرجان ارتبط باسم مؤسسه الرجل القوي محمد بن عيسى، عمدة المدينة الحالي ووزير الثقافة والخارجية المغربي السابق، الذي يؤكد في حواراته مع وسائل الإعلام دور المهرجان في خلق تنمية اقتصادية في المدينة. ويقول بن عيسى إن نشاط المهرجان “واكبته حركة اقتصادية وتجارية وعمرانية شهدتها المدينة خلال العقود الثلاثة الأخيرة”. التجاذب الذي تعرفه أصيلة حول مهرجانها له خلفية سياسية واضحة مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية. فخصوم بن عيسى السياسيون بكل أطيافهم، اليسارية والإسلامية إضافة إلى المنظمات الحقوقية، تحالفوا في السنوات الأخيرة في محاولة لإنهاء سيطرته على بلدية المدينة، المستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وهم يعتبرون استغلاله للثقافة وللمهرجان ولشبكته الإعلامية الواسعة بمثابة مطية لإحكام قبضته على المدينة وحرمانها من التداول السياسي. كما أن الاحتجاجات الأخيرة على المهرجان أججها اعتقال المستشار في “مجلس جماعة أصيلة” الزبير بن سعدون أحد أهم خصوم بن عيسى والذي يقبع في السجن حالياً بعد إدانته بثلاث سنوات بتهم يقول الناشطون الحقوقيون إنها مفبركة. 

والواقع أن لا أحد في أصيلة وفي المغرب بأكمله يشكك في أهمية المهرجان ودوره في تكريس اسم المدينة وترويج الثقافة المغربية في الخارج عبر استقطاب واستضافة الأسماء الثقافية اللامعة من البلدان العربية والأجنبية. لكن الاعتراضات ما تلبث أن تتعالى مع الحديث عن التنمية من خلال الثقافة أو “الثقافة في خدمة التنمية”، وهو الشعار الذي دأب بن عيسى على تكراره. الشاعر إدريس علوش، وهو أحد أبناء المدينة، يرى أن شعار “الثقافة في خدمة التنمية” فارغ المحتوى ولا يصلح سوى للتسويق الخارجي. “ولو جرى تفعيل هذا الشعار بطريقة عقلانية وشفافة”، كما يقول علوش في حديث لـ “العربي الجديد”، “لأفسح المجال لأصيلة لتكون مدينة للصناعات الثقافية، صناعة الكتاب مثلاً، أو التحف الأثرية، والآلات الموسيقية، وما إلى ذلك من الاستثمارات الثقافية. وهذا من شأنه استيعاب العدد الهائل من العاطلين في المدينة بمن فيهم خريجو الجامعات الحاصلين على الشهادات العليا. لكن الواقع أن بن عيسى، من موقعه كعمدة للمدينة، يرفض الترخيص للمشاريع الاستثمارية التي يرغب عدد من المغاربة والأجانب في إطلاقها في أصيلة. للأسف، لا حياة لمن تنادي!”. أما فيما يخص أفضال “أصيلة” على المدينة وإصرار بعضهم على أن المهرجان هو الذي كرّس المدينة وخلق هالتها محلياً وعربياً، فيرى علوش الأمور من منظور آخر: “المعادلة معكوسة، إذ أن المهرجان هو الذي يجني ثمار أصيلة بحكم جغرافيتها الجذابة كمدينة حالمة على تماس مباشر مع البحر وبحكم تقاليد سكان المدينة وحرصهم على جمالها ونظافتها”.  ويبقى المأخذ الأساسي في خطاب المعارضين حول السياسة الثقافية المنتهجة في “أصيلة” هو أن الآية انقلبت بحيث صارت المدينة بأكملها في خدمة المهرجان وليس العكس. فموارد البلدية ومرافقها يجري تجنيدها بشكل استثنائي لخدمة المهرجان وضيوفه طيلة أيام مكوثهم بالمدينة مع تجاهل للفعاليات الثقافية الأخرى التي تشهدها المدينة في بقية أيام السنة حيث يرحل المدعوون وتخفت الأضواء وتعود أصيلة إلى فراغها الثقافي الذي يؤثثه انتظار الدورة اللاحقة للمهرجان.  الكاتب والباحث يحيى بن الوليد، وهو أيضاً من أبناء أصيلة، يرى أنه حان الأوان لطيّ صفحة مهرجان “أصيلة” بشكله الحالي، مؤكداً على الجذور التاريخية والدوافع الإيديولوجية للفعالية التي لم يعد لها مبرر الآن: “عندما قرر بن عيسى إقامة المهرجان في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كان ذلك على خلفية رغبة السلطات في خنق الجمعيات الثقافية ذات الميول اليسارية والتقدمية، ومنها جمعية “قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي” التي يعود تأسيسها إلى 1968. ولهذا الغرض بالذات أطلق بن عيسى عام 1978 “جمعية المحيط” التي أغدقت عليها السلطات أموالاً وفيرة وإمكانيات هائلة لإقامة المهرجان”. كما يؤكد يحيى ابن الوليد لـ “العربي الجديد” أن أصل المشاكل هو الخلط الصارخ بين “مؤسسة منتدى أصيلة”، الجهة المنظمة للمهرجان، وبين البلدية التي من المفترض أن تسخّر إمكانياتها ومرافقها لخدمة ساكني المدينة وتلبية احتياجاتهم الثقافية طيلة أيام السنة. ويقول في هذا الصدد: “المدينة تفتقر إلى مركب ثقافي وإلى مكتبة عمومية تعود ملكيتها إلى البلدية أو وزارة الثقافة، فيما تحولت جمعية “منتدى أصيلة” إلى مؤسسة عقارية ضخمة، هي التي تدّعي بأنها جمعية تُعنى بالشأن الثقافي، وهي صاحبة “مكتبة بندر بن سلطان” كما أنها تملك مساكن بدلية للتجمّعات العشوائية بتمويل خليجي، كما تملك “مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية” الذي تمنع  ولوجه فلك الجمعيات الثقافية الأخرى التي تدور في أجواء بن عيسى”. أما الفنان والمصور الفوتوغرافي أحمد غيلان، وهو الآخر من أبناء أصيلة، فيرى أن “أصيلة” منذ انطلاقته “لم يسفر عن أي تقدم أو ازدهار للمدينة وسكانها واقتصادها. وكل الموارد توظَف لخدمة المهرجان. كما أن المدينة تظل تحت طائلة الإهمال لشهور وعندما يحين موعد المهرجان فقط يتم تنظيف الشوارع وتزيينها”. في إحدى حواراته التي تعود إلى 2003، صرح محمد بن عيسى لصحيفة “الشرق الأوسط” بأنه عندما أطلق “أصيلة” كانت المدينة “بلا ماء ولا كهرباء، وفجأة، بعد بضعة أسابيع من إطلاق المهرجان، صارت تتحدث عنها صحف عالمية مثل “نيويورك تايمز” و”الغارديان” و”لوموند”” وغيرها. وقال أيضاً: “كنا نستجدي ونتسول من أجل أن يستمر المهرجان”، ومن هنا يمكن فهم النظرة الأبوية للمدينة التي ما زالت تلازم بن عيسى حتى الآن. وفي نفس الحوار أكد بن عيسى أن الملك المغربي الراحل، الحسن الثاني، أعجبته فكرة استضافة المثقفين والكتاب اليساريين العرب إلى أصيلة، هو الذي كان في حرب طاحنة مع يساريي البلاد. من هنا، أيضاً، يمكن استيعاب تشبث بن عيسى بالمهرجان، لأنه ببساطة كان البوابة التي عبر بفضلها إلى منصب وزير الثقافة ثم الخارجية في عهد الملك الراحل. ربما يحتاج “موسم أصيلة الثقافي”، الذي يحتفي بالبحرين كضيف شرف هذا العام، إلى سياسة ثقافية متوازنة ومنفتحة على كافة الجمعيات الثقافية الفاعلة في المدينة وإلى إبداع صيغة متجددة للفعل الثقافي في أصيلة. هو فعلٌ سيبقى لو حصل، في خدمة أصيلة وسكانها بعيداً عن المضاربات السياسية والحسابات الشخصية.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى