موسوعة ياسين سويد «من تاريخنا: معارك وقادة».. من الأسطورة إلى الحقيقة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد حطيط
المصدر: الحياة
مما يلفت انتباه الباحث، وهو يتوغل في رحاب مؤلفات الدكتور اللواء ياسين سويد التاريخية، أن مهمته لن تكون يسيرة؛ فدونه ان يسير على هدى في تعاريج المسائل التي يتعرض لها في كتبه التي نافت على الخمسة والعشرين عدداً، وسيبحر في ميدان معرفي قوامه التاريخ، والجغرافيا، واللغة والأدب، ومن هذا الميدان موسوعتان: احداهما «تاريخ لبنان السياسي والعسكري» من ستة عشر مجلداً، وموسوعة «من تاريخنا/ معارك وقادة»، صدرت الأخيرة حديثاً في عشرة مجلدات، يضاف إليهما عشرات الأبحاث والدراسات والمقالات والمحاضرات في التاريخ العسكري اللبناني والتاريخ العام اللبناني والعربي.
لقد تنبه اللواء الدكتور ياسين سويد للنقص الذي له الغموض حول التاريخ العسكري للعرب والمسلمين، فأعد موسوعة أراد منها ان تكون نقطة ارتكاز علمية للتاريخ العسكري العربي، وخطوة جادة تسهم في نقل جانب من الحدث التاريخي العربي من نطاق الأسطورة والخرافة إلى نطاق الحقيقة. من ذلك: تحفظ الباحث على ما ذكره كل من ابن الأثير (كتاب الكامل في التاريخ) وابن كثير (كتاب البداية والنهاية في التاريخ) من روايات لوقائع معركة ملاذكرو (منزكرت) التي جرت بين البيزنطيين وسلاجقة الروم، عام 463هـ/ 1071م، «لما فيها من مبالغات لا يقرها العقل والمنطق، وخصوصاً ما يتعلق بعديد كل من الجيشين البيزنطي والسلجوقي» (راجع: ص160 ج6 من الموسوعة)، معتمداً، في ذلك، المعايير العلمية التي وضعها العلامة ابن خلدون، للتمييز بين الخبر المعقول والخبر غير المعقول.
نظّم اللواء ياسين سويد موسوعته على حروف الهجاء، وقسّمها إلى عشرة مجلدات؛ منها ستة مجلدات لمعارك وحروب وثورات حاكمة في تاريخ العرب: من العصر الجاهلي والدعوة والخلافة الراشدة، والعصور الإسلامية المتعاقبة، وانتهاء بتاريخ العرب الحديث والمعاصر، وثلاثة مجلدات لقادة المعارك، ومجلد واحد للفهارس، إضافة إلى مقدمة وخاتمة.
اعتمد اللواء سويد، في موسوعته، منهجاً قوامه التعريف بكل معركة أو قائد، يليه موجز للوقائع، والأحداث الرئيسة، فدراسة تحليلية لظروف الحدث وملابساته، وتوغل في ظروفه المكانية والزمنية، وبذلك نجح المؤلف في جلاء الغموض والارتباك في تفسير وقائع هذه المعارك، وتعليلها وتفسيرها على قاعدة العلاقة السببية بين الأحداث، ليخلص، بعد ذلك، إلى تقويم المعركة، مبرزاً عناصر القوة أو الضعف في التخطيط والتنفيذ، موثقاً دراسته بالمصادر الأصلية والمراجع المعتمدة، مذيلاً كل معركة بخارطات عسكرية توضيحية، تنم عن معرفة ودراية في الفن العسكري، استمدها «اللواء» من علمه وخبرته العسكرية، إضافة إلى صور حقيقية أو تخيلية للقادة العسكريين، باستثناء الرسول (ص).
ومما يميز موسوعة «من تاريخنا» ان مؤلفها لم يكتف بالتأريخ للمشاهير من قادة العرب فحسب ـ ابتداء بالرسول (ص) الذي أفرد له باباً خاصاً في المجلد السابع، ثم ترجم لكبار القادة كالإمام علي بن أبي طالب، والخليفة عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وعمر المختار، وعبد الرحمن الشهبندر، وجمال عبد الناصر، وحافظ الأسد، وياسر عرفات، وكمال جنبلاط، وغيرهم ـ بل حرص على التأريخ لقادة مغمورين، مثل: خارجة بن حذافة العدوي (تـ. سنة 40هـ) وخلد بن عُرفُطة بن أبرهة العذري (تـ. سنة 60 أو 61هـ)، وذو الكلاع الحميري (تـ. 27هـ)، وقيس بن أبي صعصعة الأنصاري (تـ. سنة 15هـ؟)، وزهرة بن الحُويّة (تـ. سنة 77هـ)، وفاطمة سيد أحمد الجزائرية، المعروفة بـ «لاله» (أي السيدة).
وفي ختام هذه العجالة، لا يسعني إلا أن أنوّه بالمنجزات العلمية التي حققها اللواء سويد في موسوعته؛ فهو يسترعي انتباهك إلى أنك تقرأ لرجل استقلال وانفراد، يؤيده عقل متوقد، وقلم لا يعيا بالإبانة والإفصاح، وكأني حين انتهيت من قراءتي لموسوعته، قد رجعت من رحلة طويلة ساقني إليها اللواء سويد، وأراني فيها أحداثاً ووقائع من تاريخ العرب العسكري، في أزمنة قديمة وحديثة، ما يحرّك الذهن، ويوقظ الفكر، ويثير النفس، ويلهب الشوق إلى المزيد، فكان له، بذلك، قصب السبق في الإجابة عن تساؤلات كثيرة، بموضوعية رصينة، وعقل هادئ، وفكر ثابت، وسعة اطلاع، وحسّ نقدي ومنهج علمي، ما جعله يقارب حقائق كثيرة في تاريخ العرب العسكري عبر العصور، لم يكشف عنها النقاب من قبل، فقدم معلومات موثوقة، بدقة وأمانة ظاهرتين، ما جعل موسوعة «من تاريخنا» قاعدة انطلاق للبحث العلمي الجاد في ميدان الفن العسكري العربي، وفي منزلة خاصة بين المصنفات التاريخية التي تزخر بها مكتبتنا العربية.