ميدان تحرير الأدب

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد بنميلود

المصدر: السفير

 

 

الفيسبوك كان منذ سنوات ولا يزال بالنسبة لي هو تلك المسودة العارية. مع الوقت تصير تلك المسودة صحيفة شخصية للكاتب، يمكننا الاقتراب منه عبرها بطريقة أخرى، لاكتشاف جوانب خفية من حياته ومن عالمه الأدبي لم تكن متاحة من قبل. مفاتيح جديدة فاعلة ومؤثرة أصبحت بين أيدينا لتحليل شخصية الكاتب، حميمية أكثر، ويومية؛ بالإضافة إلى كتاباته الأدبية وآرائه في أحداث كبرى. إنها صحيفة تفاعلية غير جامدة ولا تصدر أسبوعياً أو شهرياً أو دورياً بعد إعدادها الكـامل كرفقة فريق، وترتيبها وتصفيفها وتنمـيقها. بل هي صحيفة شخصية، يومية، آنية، حية، متحركة، وتفاعلية.

سنحتاج في العالم العربي وقتاً طويلاً لنفهم ونستوعب هذا التغيّر المفاجئ العميق والخطير في طريقة الاتصال والتواصل وشكلهما، هذه النقلة التكنولوجية النوعية الحديثة والثورية التي حققها العالم في هذه الألفية الجديدة، المتمثلة في ظهور مواقع الاتصال والتواصل الاجتماعي الحديثة، وعلى رأسها الفيسبوك.

بعد سنوات قليلة فقط من ظهوره تحوّل الفيسبوك إلى أداة إعلامية رهيبة في يد الجماهير، تنقل الخبر طازجاً من مصادره الحية، من دون أن يخضع للأدلجة والتوجيه التي تخضع لها عادة الأخبار عبر وسائل الإعلام التقليدية المعروفة، بل يصل الخبر خاماً من المنجم بترابه وشوائبه فلم يتعرض بعد لأي تحليل أو توجيه، ليسقط مباشرة في يد الجماهير.

مع الوقت بدأت الجماهير تعزف أكثر عن وسائل الإعلام التقليدية لتعتبر الفيسبوك وباقي مواقع التواصل والاتصال الاجتماعي الحديثة المصدر الأول الموثوق للمعلومة.

أدى ذلك إلى إزاحة ورقة التوت التي كانت تخفي الغابة، وإلى إشعال شرارة ثورات وتمرّدات في دول العالم الثالث وعلى رأسها طبعاً دول العالم العربي قاطبة في موجة تسونامي عملاقة واحدة لا يحدها ولا يؤطرها ولا ينظمها ولا يوجهها إلا الفيسبوك نفسه وباقي مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الثورات والتمرّدات أدّت إلى سقوط أنظمة عتيدة لم يتوقع أحد من قبل سقوطها بتلك الطريقة الهزلية وبذلك التتابع الغريب والمدهش كسقوط بناءٍ مصنوع من أوراق اللعب. كما أدى ذلك أيضاً إلى اضطرابات وقلاقل وفوضى ما زالت مستمرة إلى الآن. السبب الأساسي في ذلك في نظري هو هذه الإمكانية الثورية الجديدة التي أعطت للشعوب العربية لأول مرة في تاريخها: الحق في التعبير وفي قول كلمتها سواء أكانت هذه الكلمة ناضجة أم لا، حكيمة أم متهورة. هذه الإمكانية التي لم تعطها لهذه الشعوب أنظمتها التي ظلت تقمعها لسنوات، ولم يعطها لها إعلامها التقليدي المحدود والموجه والمتحيز في الغالب. بل أعطاها لها الفيسبوك وباقي مواقع الاتصال والتواصل الاجتماعي المجانية.

سقوط منظومات كاملة

لا يمكننا أبداً فصل هذا التحول العميق والكبير الذي عرفه الواقع في أوطاننا ومجتمعاتنا وما زال يعرفه، لا يمكننا فصله أبداً عن الأدب والأدباء في تفاعلهم مع واقعهم، باعتبارهم كائنات حية وفاعلة تمتلك أداة حية وحادة للتأثير والتفاعل داخل المجتمع هي أداة الفن. الكتّاب الذين فهموا جيداً هذه التحوّلات، فهموا أيضاً أن سقوط الأنظمة وتضعضع أنظمة أخرى، لم يكن سقوطاً لما هو سياسي خالص فقط، بل تجاوز ذلك إلى سقوط منظومات استبدادية كاملة ارتكزت أيضاً فيما ارتكزت عليه لاستمرارها على الأدب والمؤسسات المخصّصة له ووسائل دعمه؛ إنه سقوط أيضاً للشكل القديم الذي كان يُنتج به الأدب ويكرس به عبر مؤسسات ثقافية مشبوهة وزارات للثقافة واتحادات للكتاب ودور نشر الخ.

الغضب الشعبي الذي فرّغته الجماهير نحو أنظمتها السياسية الحاكمة كان غضباً أيضاً في عمقه الخفي اتجاه هذه المؤسسات الثقافية والشكل القديم لإنتاج الثقافة ونحو الأدباء والكتاب الموالين والمستفيدين أيضاً من وجود تلك الأنظمة ومن بقائها قائمة.

الكتّاب الذين استوعبوا كل هذه التحوّلات العميقة المفاجئة التي احتقنت أسبابها الموضوعية وتراكمت بشكل طبيعي في طبقات الواقع الجيولوجية منذ سنوات طويلة، استوعبوا أيضاً أن الثورة هنا يجب أن تكون ثقافية أيضاً، ربيعاً عربياً أدبياً، يطيح بكل رموز الاستبداد الثقافي أولاً، ويصحّح نظرة الجماهير إلى الأدب والأدباء.

طبعاً لن يحدث ذلك من داخل مؤسسات استبدادية مسيّسة وفاسدة، ومن داخل منابر تقليدية لم تطوّر نفسها لاستيعاب التحولات الجديدة، بل كان لا بد أن يحدث ذلك من مكان آخر، من المكان الذي توجد في الجماهير وتتكتل فيه، من المكان الذي يأتي منه صوت تلك الجماهير وليس من المكان الذي تصرخ الجماهير ضدّه، من المكان الأكثر حرية ومجانية، هذا المكان الذي ليس تلفازاً، وليس إذاعة، وليس مؤسسات ثقافية، وليس اتحادات رسمية للكتاب، وليس صحفاً وجرائد نظامية. بل هذا المكان بالذات هو الفيسبوك وباقي مواقع التواصل الاجتماعية الحرة.

طبعاً ليس ضرورياً أو مشروطاً أن يصيح الكاتب بما تصيح به الجماهير نفسه، بل الثورة الثقافية الحقيقية تستدعي من الكاتب أن يصيح أيضاً ضد تلك الجماهير، وأن يصدمها بعمقها الحقيقي الذي يلزمه الكثير من المعرفة والثورة على الذات. فبالإضافة إلى الصوت الغاضب في السطح الموجّه بشكل مباشر ضد الأنظمة والسلطة والتفقير والاضطهاد لا بد من صوت آخر أكثر معرفة ووعياً يصيح ضد الذات وضد الميكانيزمات الدقيقة والبنية الاستبدادية العملاقة ككلٍّ لا يتجزأ؛ تلك البنية التي نشكل جميعاً أساساً لها. إذ لا يمكننا الحديث عن ثورة ثقافية حقيقية إلا بثورة على الذات.

نحو التكامل

لكن هذه الثورات، سواء السياسية أو الثقافية، من أجل الإطاحة بأنظمة أو من أجل تهذيبها فقط وتحويرها من الاستبداد إلى الديموقراطية والعدالة الاجتماعية ومن شكل في الحكم إلى آخر، أو من أجل الإطاحة برموز الأدب الذي عضد تلك الأنظمة وأعطاها شرعية ثقافية لسنوات في علاقة سِفاح مستمرّة بين السياسي والأدبي، هذه الثورات في كل الأحوال لم تكن لتنطلق من داخل هذه الأنظمة ومن داخل مؤسساتها الثقافية المتحكّمة فيها بالكامل، بل من خارجها. من المكان الأكثر حرية وحياداً الذي لا يمكنها التحكم فيه: من الفيسبوك.

هناك كتّاب كثيرون مازالوا ينظرون إلى الفيسبوك على أنه موقع سخيف مليء بالرداءة والتفاهة والاستسهال، وأن ما يُنشر فيه لا يرقى إلى مستوى المنشورات الورقية، والمطبوعات. قد يكون هذا صحيحاً إلى أبعد الحدود، لكن هؤلاء الكتاب لا يحدّثوننا أبداً عن رداءة وتفاهة المنشورات الورقية، والمطبوعات، واستسهال النشر الورقي، والفساد الكبير والاحتكار والاستغلال المستمر لجهد الكتاب الذي يعمّ أغلب دور النشر العربية الحكومية منها والمستقلة إلا إذا استثنينا القليل جداً من هذه الدور ومن الإصدارات الحقيقية الرصينة لكتاب حقيقيين ظلوا دائماً في الهامش.

الفرق الوحيد بين مكتبة ورقية وبين الفيسبوك هو أنك تكون انتقائياً داخل مكتبة، تبحث عن عنوان محدّد يناسب ذائقتك ووعيك، متغافلاً عن الكتب الأخرى التي تحيط بك من كل جانب. بينما في الفيسبوك تكون أمام مكتبة عارية، بلا أغلفة، وبلا توقف أو تهذيب لمرور السطور أمام عينيك. مكتبة عملاقة بلا رفوف وبلا مقدّمات إيحائية مضللة وبلا تميّز عن الآخرين في شكل الصفحة لكُتّاب لم يأتوا من الفضاء الخارجي، بل من الواقع المحيط بك، هم أنفسهم أصحاب النظّارات الطبية والياقات والكاشكولات والإصدارات المطبوعة التي تعجّ بها المكتبات، هم أنفسهم الكتاب الذين سمعتَ عنهم كثيراً أنهم كتاب كبار. تكون أمام حقيقتك، وأمام أوهامك، التي لا يكفي إغلاق الفيسبوك أو تعطيله أو رفضه لتوقيفها أو لمحوها. بل عليك مواجهتها، تتبّعها، قراءتها، فهمها، والتفاعل معها أيضاً، حتى لا تبقى خارج الواقع، تنتمي للماضي بحنينه الزائف وتصوراته القديمة المغلوطة، وإيحاءاته الكاذبة بالرقي والسمو، عوضاً عن أن تنتمي للحاضر ولصدمته.

طبعاً التعميم والأحكام المسبقة والوعي المغلوط بهذه الأداة الحديثة للنشر والتواصل والتفاعل أنتج هذه الثنائية المغلوطة، التي تبدو متضادّة في ظاهرها، بين النشر عبر الفيسبوك والنشر الورقي، كأن أحدهما يحاول نفي الآخر، كأن هناك كتاباً فيسبوكيين وهناك كتاباً مطبوعين. بينما الوضع الصحيح هو أن يكون هناك نوع من التكامل، وهذا هو ما يقوم به الآن كتّاب كثيرون، يستفيدون من الإمكانات الثورية الحديثة للنشر الإلكتروني عبر الفيسبوك أو عبر مواقع إلكترونية أخرى التي لا يمكن أن يمنحها لهم النشر الورقي وحده، كما أنهم يستفيدون أيضاً من الطبع الورقي ومن إمكاناته التي لا يمكن للفيسبوك أو للنشر الإلكتروني وحده أن يمنحها لهم.

من هنا لم تعد صفحة الكاتب في الفيسبوك مجرد صفحة عابرة، بل صحيفة أدبية شخصية إلكترونية، أهم ما يميّزها هو أنها: حرة، لا يمكنه الاستغناء عنها بسهولة، جزء أساسي من عمله الأدبي، وورشته الإبداعية، فهي مسودة فاعلة في لحظة الكتابة، وصحيفة للنشر، كما أنها منبر للتعريف بالكاتب، وللتواصل معه عبرها، وأيضاً هي قناة إعلامية يمكنه عبرها تمرير أخبار مستعجلة ومواقف وتقديم دعوات عامة لحضور أمسيات له أو الإعلان عن توقيع كتاب مطبوع الخ. إنها صحيفة أدبية لشخص واحد، هو مدير تحريرها، وهو محرّرها، وهو ناشرها، من دون وساطة، ومن دون تدخل لأي رقابة، بل مباشرة بسرعة قياسية في اتجاه القارئ. هكذا أرى صفحتي الشخصية على الفيسبوك، وبهذه الجدية أتعامل معها، معتصماً داخلها برفقة جمهرة من أصدقائي الكتاب والشعراء على صعيد شمال إفريقيا والوطن العربي والعالم، معتبراً الفيسبوك هو ميدان تحرير الأدب الجديد.

لقد تجاوزت التقنية الأدباء العرب بكثير، عليهم أن يعترفوا بذلك. هذه التغيّرات الجذرية في التقنية التي لم تكن يوماً ما عابرة، بل كانت دائماً مؤثراً عميقاً في تاريخ الإنسان، منذ الكتابة على الصخور، إلى الكتابة على الألواح والجلود، إلى الكتاب، إلى المطبعة، إلى العالم الحديث الرقمي، إلى الإنسان الرقمي.

كل هذه التحولات لم تكن شكلية فقط، بل ساهمت في تزحزح المفاهيم والثوابت والأنساق وتغيّر العالم بشكل عميق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى