«مٍلبورن» للإيراني نيما جاويدي.. فساد الروح

الجسرة الثقافية الالكترونية
*نديم جرجورة
فيلم روائي طويل هو الأول لمخرجه. 93 دقيقة فقط تروي حكاية عادية قد يعيشها كثيرون. حكاية زوجين إيرانيين شابين يستعدان للانتقال من منزلهما إلى المطار، بغية السفر إلى ملبورن الأوسترالية لإكمال دراستهما الجامعية. ساعات قليلة تفصلهما عن موعد وصول سيارة الأجرة. منهمكان هما في ترتيب الحقائب، والتخلّص من أداوت وأثاث، والتفاوض مع وكيل عقاري، والتواصل عبر «سكايب» مع قريب الزوج في ملبورن، واستقبال مودّعين وأهل وجيران. هذا يعني أن التفاصيل كلّها تدور في المنزل المؤلّف من ثلاث غرف ومنافعهما. كاميرا «تطارد» الشخصيتين الأساسيتين وضيوفهما. تلتقط كل شيء. تخترق ذاتاً وروحاً وعلاقات. تقول ما لا يُقال أحياناً. كاميرا سلسة في متابعة دقائق الأمور والحوارات.
هذا كلّه عاديّ في «مِلبورن» للإيرانيّ الشاب نيما جاويدي (مواليد 1980)، المتخصّص بالهندسة الميكانيكية قبل اشتغالاته السينمائية. هذا كلّه متداول ومعروف ولا يُقدّم جديداً على مستوى الحكاية وتداعياتها ومساربها. لكن، مهلاً: هناك تفصيل صغير يحدث على هامش انهماك الزوجين الشابين بالترتيبات الأخيرة قبل السفر. هناك تفصيل صغير ما إن يُكتَشف «صدفة» حتى تتبدّل الأحوال والمسارات، وآلية الاشتغال أيضاً. حتى تتبدّل حركة الكاميرا من مجرّد مُراقب يلتقط إلى مُشارك في رسم ملامح التبدّل ومتاهاته وفضحه للمبطّن والمخفيّ. فبعد نحو نصف ساعة من بداية الحكاية، التي تُقدّم الحبكة والشخصيتين الأساسيتين، يكتشف الزوج أمير (بايمان مُعادي) أن طفلة الأعوام القليلة جداً، التي يُفترض بها أن تكون نائمة في الغرفة، متوفاة. هي ابنة جار لهما، طلبت مربّيتها الشابّة منهما أن ينتبها قليلاً إليها ريثما يعود والدها من العمل، فهي منشغلة بأمر ملحّ. لحظة اكتشاف موت الطفلة، تنقلب الأمور رأساً على عقب. تحاول الزوجة ساره (نيغار جواهريان) أن تتذكّر من هي المربيّة، وكيف أنها كانت مرتبكة وقلقة ومستعجلة. تحاول أن تفهم ما إذا كانت الطفلة نائمة عند وصولها إليها أو لا. تحاول أن تلجم غضبها وتوترها، تماماً كما يحاول أمير أن يلجم غضبه وتوتره، بحثاً عن مَخرج من المأزق. إذ كيف سيتصرّفان عند مجيء الأب لاستعادة ابنته؟ كيف سيتصرّفان أمام الجميع، ولديهما طفلة متوفاة في غرفة نومهما، وهما لا يعرفان كيف ماتت ولماذا؟
لن تكون الأحداث اللاحقة لاكتشاف موت الطفلة عادية. التشنّج والألم والارتباك والقلق والخوف والبحث عن منافذ للنجاة من مُصيبة كهذه لن تكون عادية أبداً. الأداء الرائع للثنائي بايمان مُعادي ونيغار جواهريان يختزل الجماليات كلّها في الفيلم، من دون أن يُلغيها. فالأساسي كامنٌ في النص المكتوب، أي في التفاصيل الأولى للعمل: رسم الشخصيات كلّها وتحديداً شخصيتي أمير وساره، طريقة المعالجة، الحوارات (أداء الحوارات مدهش لشدّة ما فيه من عفوية وسلاسة لا تحجبان الارتباك والتوتر والقلق، بقدر ما تُساهمان في إظهار الحالة النفسية والجسدية للزوجين الشابين)، الكادرات، التوليف، الإضاءة. هذه مسائل أساسية في بناء الفيلم وتركيبته السينمائية. لكن الأداء التمثيلي (حركة الجسد، حالة الذات والروح، العيون، الأيدي، التنفّس، طريقة الكلام والنطق) كفيلٌ بتحويل العمل إلى لوحة فنية باهرة وآسرة ومكثّفة، تجمع الشكل بمضمون يفضح الخبث الاجتماعي والخديعة الفردية والكذب المحجّب بمظاهر مخادعة. اختيار مكان واحد وزمان واحد دعوة إلى الانسياب داخل عوالم منغلقة على نفسها، قبل أن يُفضح ما فيها من علل ومهانات.
الخروج من المأزق كامنٌ في الاحتيال. يبدأ الاحتيال من اللحظة الأولى لوصول الطفلة إلى منزل الزوجين (هذا لا يظهر في الفيلم). الاحتيال غطاء لكذب منفلش لدى شخصيات عديدة، أبرزها والد الطفلة. اكتشاف أمير وساره «كذب» الأب تشجيعٌ لهما على ممارسة الاحتيال للنجاة من مُصيبة غير متوقّعة. النجاة تتمّ في اللحظات الأخيرة، عبر الخروج، المرتبك هو أيضاً، من المنزل، الذي بات ساحة جريمة، وحيّزاً لفضيحة، وكاشفاً المخفيّ الفاسد في نفوس وعقول وبيئة. النجاة عبر الخروج من الانغلاق القاسي داخل المنزل إلى ما يُفترض به أن يكون خلاصاً مادياً، إذ إن دموع أمير في سيارة الأجرة تحتمل معانيَ عديدة، لعل أبرزها التنفيس عن غضب وتوتر، أو إعلان موقف من قذارة الحالة، أو انعكاس لمأزق التوتر في استمرار جريمة الاحتيال والخديعة.
«مِلبورن» فيلمٌ بديع فاز بجائزة أفضل فيلم في الدورة الـ 36 (9 ـ 18 تشرين الثاني 2014) لـ «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي». يمزج بساطة التعبير بتفكيك معمّق لحالات وأمكنة وذوات، ويُقدّم صورة سينمائية آسرة، هي عملياً درسٌ في صناعة المشهد واللقطة والكتابة والتمثيل.