«مَكبث» للأسترالي جستن كيرزل.. طغيان الدم

الجسرة الثقافية الالكترونية
*زياد الخزاعي
ما معنى أن يكون مَكبث بيننا اليوم؟ الجواب: الدّم، فهذا في كلّ مكان. يُسفك بهوان. يُرْهق بيسر. يُهدر بخسّة. يكتب الباحث البولندي يان كوت في نصّه الإشكالي «شكسبير معاصرنا» (1964) أن الدم في المسرحية ليس مجرّد مجاز. إنه حقيقيّ يسيل من جثث قتلى (…). لكن، لا يُمكن غسله عن الأيدي والوجوه والخناجر. يُضيف أنه «يزيد أكثر فأكثر، والجميع يخوض فيه. إنه يفيض على المسرح، وأي إخراج لـ «مَكبث» لا يوحي أن العالم غارقٌ في طوفان من الدم هو إخراج كاذب حتماً» (ترجمة جبرا إبراهيم جبرا). من هنا، أتت أفلمة الأسترالي جستن كيرزل، التي تُعدّ الأكثر اعتناء بلونه ورعبه، مفعمة بروح انتقام مُهدريه، وحقد ممسوسيه. «مَكبث» وليم شكسبير إعلان درامي مدروس عن توحّشنا، وعن مقتلة دائمة نستسيغ مراقبتها إن فشلنا في ارتكابها. صوّر كيرزل بطله، منذ اللقطة الأولى، وهو منهمك بتصفياتٍ، ونحر رؤوس، وتقطيع أوصال. إنه نموذج لشهوة سلطة ترى في التسامح خناعة، والرأفة سبّة عسكرية.
سطوة الفتنة
مَكبث ـ كيرزل، المشارك في المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الـ 68 (13 ـ 24 أيار 2015) لمهرجان «كانّ» السينمائيّ، سيرورة قاتل. تتحقّق قيامة استبداده عبر افتتان شخصي في الاستحواذ على سطوة أكثر فتكاً. إنه رجل ليليّ، يوجّهه ضميره نحو نيّات حسم وطغيان، تحيط به وساوس مؤامرة وظنّ. نراه، بحسب مشهديات مدير التصوير أدم أركابو في تعاونه الثاني مع كيرزل بعد «سنوتاون» (2011)، مصبوغاً بشارات حرب، ومحاطاً بسماء رصاصية مغبّرة، وبجدران كالحة لغرف فارغة إلا من الفزع. ضوء شموع قلعته، كما لدى الأميركي ستانلي كوبريك في «باري لندون» (1975)، لا يحسم مزاج محيط وحسب، بل تترسّم خيارات شخصيات ترى في الظلام ستراً وتقية. تجلّى اللعب بين الاثنين (ضوء وظلمة) في مشاهد الأشباح، خصوصاً في الفقرة المذهلة لتجسّد خِلّه الوفي بانكوو وسط حفلة التتويج، مثيراً ذابحه مَكبث الذي يطلق صرخته الشهيرة: «كدت أنسى مذاق المخاوف»، قبل أن تعمّم (الصرخة) شكوك رعيّته به، وبشروره وغدره. فطنة كيرزل وضعت مَكبث في مواجهة تخيّلاته لضحاياه، أكثر من تمظهرات ساحراته التي نقابلهن عرضاً. إنسان تغلّ فيه رؤى المذابح لن يرى عالماً واقعياً، بل جناياته ووجوه قتلاه. لذا، يتجلّى له حفيد بانكوو سائراً بين المتعاركين في ساحة وغى جحيمية، رافعاً خنجر نحره بعناد، إشارةً إلى ميتته المقبلة على يديه، كما رفاق مَكبث وأفراد عائلاتهم التي ستنال منهم نصاله تباعاً.
اسكتلندا كلّها، مواقع وبرار وجبال وقلاع ولهجة وأزياء ومظاهر اجتماعية، متوافرة بتفاصيل دقيقة في نسخة جستن كيرزل. إنها أكثر أثنوغرافية مما صوّره البولندي رومان بولانسكي (1971) بأموال صاحب مجلة «بلاي بوي» هيو هافنر، واهتمامه بعسكرة مَكبث وبطشه، وتفخيم هوسه ببقر بطون نساء حوامل وقتل أجنتهنّ، كردّ فعل على فاجعة مقتل زوجته الممثلة شارون تايت في العام 1969. وهي أبعد من إصرار الأميركي أرسون ويلز على «أبوكالبتية» مسرحته السينمائية لنصّ شكسبير (1948)، التي نعت دراسون بطلها بـ «مَكبث الفودو (السحر الأسود)»، كونها رؤية منحوسة لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، زخرت بنباهات مسيّسة عن عساكر مستبدين جدد، ينشدون خوض حروب جديدة. تشكيلية كيرزل أقرب إلى سينوغرافيات «عرش الدم» (1957) للمعلّم الياباني أكيرا كوروساوا وشجاعته في اختزال شخصيات كثيرة غير محورية وحوارات مطوّلة، ملتوية المقاصد، تقاربا في انتصارهما الرؤيوي للبرية، كونها مسرحاً فريداً لقسوة ربانية ستنال حتماً من الآثم، وصوّرا مشاهدهما الخارجية وسط فضاءات خلاّبة.
مقارنات
تحصّن الأول عند سفوح جبل «فوجي»، متابعاً بطله تاكاتوكي واشيزو (توشيرو ميفوني) خائضاً معارك لا مثيل في كوريغرافيتها، قبل جندلته بسهام مُقتصّيه؛ فيما وجد الأسترالي ضالته في فيافي اسكتلندا، منجزاً جماليات مبتكرة عدّة، تمثل أكثرها قوة في جيلان مَكبث (الممثل البريطاني مايكل فاسبندر) ـ المرتعب وشبه العاري بمنامته فجراً ـ باحثاً عن جواب بشأن مصيره، قبل أن ينال منه سيف مكدف الذي يعلن بفخر: «لقد تحرّر الزمن»، وهو يقطع رأس «كلب الجحيم»، بحسب شتيمته. ولا بدّ، هنا، من الإشارة إلى الأفلمة الفريدة للهندي فيشال بهرواج «مقبول» (2003)، حيث يرتقي «مَكبث المسلم» (عرفان خان) سلّم الإبادات بين عصابات مومباي.
اختار جستن كيرزل روح التراجيديات الأغريقية، لكن بدموية باذخة، معمِّقاً كينونة الليدي مَكبث (ماريون كوتيار)، محوِّلاً إياها من شيطانة فتك إلى جسد هيولي شديد الأناقة، ترتدي أنانية مَنْ يؤمن بحق شريكه في المُلك بأي ثمن، وإن لا مكان للندامات أو التوبات. زوجة لم تنجب، تقف بصلابة ضد خيانة «ملكها». تلتصق به بحركات تعبيرية، موحية بـ «إيروسية» ملتبسة ومهزومة بينهما. مقاصد استبدادهما ودمائهما لا ترغب في الوقوف عند «إنتاج» ورثة، يقف لهم الانتقام بالمرصاد. فطلاّب الزعامات ملعونون إلى الأبد.
المصدر: السفير