نادر عمانوئيل لم يبق لنا غير بحة الحزن

الجسرة الثقافية الالكترونية
*قاسم ماضي
“هنا .. في هذه النهارات المؤجًلةِ، حيثُ ينتحل ُ الليلُ، صفة البياض، تحاول يدُ لامرئية، تعميد َ الحرائقِ، وزرع المصابيحِ على حافة ِ طريقٍ، يختبئ وراء شجرة”.
أشعر بروحه الطاهرة، تحلق في السماء مع القديسين، يغازلني بشعره الضوئي، الذي نثره ُفي أرض الغربة، والتي تتسع مساحتها بفعل تشظيات المآسي التي لا تنتهي، وهو يترك وراءه، بنتين وزوجة، حتى تلك اللحظة وهو في قبره، يشعر بنكأ الألم يمتد طولاُ وعرضاً في روحه الهائمة بلا قرار، وهو يعمل مثل كاميرا فيديو قبل رحيله، لإختزان كل ما تقع عليه عيناه، وحفظه في أرشيف دماغه، ولا يسمع تأوهاته أحد لا من الداخل أو الخارج، وظل “عمانوئيل” يردد في أعماق نفسه:
“ثمة حلم، سيولد في إحدى الزوايا، ورصيف سيحاول جاهداً، استعادة َ ذاكرةِ الذين مضوا قبل الأوان، وطفولة ستعبثُ بألوانِ الفصول، ووجه القمر بعد انتصافِ المحنةِ بساعات”.
يحاول الشاعر نادر أن يلملم أفكاره التي استجمعها من وطنه المحكوم ببقاياه التائهة، والمحكومة الحائرة، والمفجوعة والمصدومة، والمكبوته، وتتوالى عليه الأسئلة، كيف لهذا الشاعر الحالم، أن يهرب من هذه الحالة التي تلبسته، وكل هذه المرئيات التي تحاصره، بفعل الأجواء المحيطة به، وهو من جيل استمع إلى قادة وساسة، ملأوا الآذان بكلمات رنانة وشعارات براقة، أوصلتنا الى ما نحن عليه الآن، فالشاعر عمانوئيل أحس بكل ما حوله ينهار، فظلت روحه المُحلقة في عليائها، وأن المُثل العليا التي استقاها منذ طفولته بين أروقة الكنيسة، القدوة في أرفع مراتبها، كل هذا قادهُ إلى التحرر والانطلاق، متسائلاً وهو الحالم، ماذا لو طرت بأجنحة، وحلقت عالياً فوق هذا العالم ورأيت ما فيه، هذا التوق للتحرر والخلاص، والهروب إلى التأمل وما حوله، وإسباغ السكينة والهدوء عليها، من جراء نفسه القلقة، المتوترة، المفزوعة، والباكية ندما على زمن الفوت الباعث على الضيم والحسرة، فظلت قصائده التي يتنقل بها من لحظة مبطئة إلى لحظة مبطئة، وهو يتلقى الصدمات تلو الصدمات، وظل منحبساً داخل الزمن، ولم يعش خارج زمانه، محاولاُ هذا الكائن الضوئي بالدفع بالزمن الراكد خارج دوائر الحزن، والملل، والإنكسار.
يقول في قصيدة “سلالاتً بدائية” وهي عنوان الديوان الصادر من دار الغاوون، ويقع الكتاب في 50 صفحة من القطع المتوسط:
“من سلالالتنا البدائيةِ، خرجنا متُخمينَ بالفضائحِ، نمارسُ مهنة َالهروب ، من أسمائنا المتشابهة، مخافةَ أن يتبدد، زمانٌ آخر، وننتهي، كما الآخرين على عجلٍ”.
للأبدان التي تخرج من نفس المكان لغتها التي تبوح بها من دون أن تنطقها، كما يرسم لها صورة ضوئية لما تُمر به، وتلتقي الذات والاخر في معظم نصوصه التي يحمل وشم كل منهما ولأن الشعر إنتاج بالحواس كلها، تجد كل ثيمة تتفرع منها جل رؤياه الجمالية والفنية وهو يصب كل ما في وجدانه في مفردات لغته الجميلة والمقتضبة، وفيها من الدلالات الكثيرة والمتانة البنائية القادمة من التقاليد الشعرية.
“عندما يتساقط ُالماءُ، على وجهكِ المسافر، وجهك الذي يشبه، إلى حدٌ ما، صوت أمي، تزدحم ُ المحطاتُ بالعائدين، من لذًة الهروب، ويتكسر ُ أمام أعين الدهشة، زجاج ُ النوافذ، وأبقى انا، مثل طائر غريب، حط على شجرة ميتة”.
بقي ان نذكر ان الشاعر من مواليد بغداد سنة 1972، صدر له في الشعر “تداعيات” 2001، “موت المغني” 2010 مجموعة مشتركة، توفي في العام 2014 على أثر إصابته بمرض سرطان الرئة في الولايات المتحدة الاميركية – ميشغن، وهذا الاستذكار جاء تخليداً لروحه الهائمة الباحثة عن الوطن.
المصدر: ميدل ايست اون لاين