نازك الملائكة / محمد ياسين

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
(1)
ولدت نازك الملائكة في حي العاقولية وسط بغداد عام 1923م. وكانت بكر والديها.
يعود نسب أسرة الملائكة إلى جذور تاريخية تصل إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء، أحد ملوك المناذرة اللخميين. وظل أحد أحفاد الأسرة يحمل لقب اللخمي إلى أن صدر فرمان سلطاني يمنح العائلة لقب “الجلبي”. عُرِف أفراد أسرة نازك بالتقوى وحسن الجوار والأدب بين الجيران مما جعل الشاعر “عبدالباقي العمري” يقول: إن هذا البيت بيت ملائكة”. ومن هنا أصبح يُطلق على العائلة لقب الملائكة.
تقول نازك:
أنا وحدي فوق صدر البحر يا زورق فارجع
عبثا انتظر الآن فنجمي ليس يطلع
هبت الريح على البحر الجنوني المروّع
فلتعد للشاطئ السّاجي بقلبي المتضرّع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)
تخرجت نازك من المعهد العالي بعد أن أنهت المرحلة الثانوية، وانخرطت في التدريس في نفس الكلية التي درست فيها، وأصبح أساتذتها زملاء لها. وقد عمل معظم شباب عائلتها بمهنة التدريس بعد أن تركوا مهنة التجارة. ولم تكن نازك الأولى في العائلة من الإناث اللواتي عملن في هذه المهنة فقد رُوي أن عمتيها عائشة وبتول كانتا معلمتين في مدارس بغداد.
كانت نازك من أوائل الفتيات اللواتي خلعن العباءة بتشجيع من والدها الذي تحدى التقاليد، واشترى لها قبعة تضعها على رأسها بدل العباءة، حيث كان السفور آنذاك خرقا للعادات والتقاليد. ولكن أسرة نازك كانت ذات فكر وعلم وثقافة مما أثر في شخصيتها وجعلها تقيس الأمور بموازين المنطق والعلم، وإن كانت في كثير من الأحيان تلبس العباءة في الشارع عندما تخرج لزيارة الأهل أو بعض الأقارب أو المعارف مراعاة للتقاليد.
تقول نازك:
أيها الشاطئ يا منبع أحلامي، وداعا
سئم المجداف في كفـّيَ دفعا وصراعا
كيف ألقاك وقد مزّقت الريح الشراعا
ورجائي فيك بين الموج يا شاطئ ضاعا ؟
(3)
تعرفت نازك على المجلات والشعر والقصص منذ طفولتها، ووجدت متعة في المطالعة. وأخذت تحفظ الشعر والذي أصبح بعد نضجها ذخيرة ذاكرتها ترفد به مواهبها، وساعدها على ذلك مكتبة والدها الضخمة، فكانت تتمنى أن تكبر بسرعة لتقرأ أمهات الكتب وتزداد علما ومعرفة.
كانت نازك تحب المسرح وقد شاركت أطفال عائلتها الصغار التمثيل على مسرح أقامه الأطفال، و استخدموا السرداب بمثابة غرفة لتبديل الملابس. وكان الحاضرون من الأهل يصفقون لأطفالهم ويشجعونهم.
أحبت نازك الغناء والموسيقى وشاركت أبناء العائلة في فرقة موسيقية غنائية لإحياء حفلات الأسرة. كما كانت الأسرة المثقفة تجري مباريات شعرية فيما بينها. وكانت نازك تنظم الشعر منذ صغرها وكان الأهل يرددونه غناء وإنشادا.
تقول نازك:
أسفا ضاعت الطفولة في الما ضي وغابت أفراحها عن جفوني
وهي لو تعلمين أجمل ما يـم لك قلبي ، وما رأته عيونــــــــــي
حينما كنت طفلة أجهل السّـر وأحيا في غفلة من شجونـــــــــــي
كالعصافير أملأ الدار لهــوّ اً وغــناء وأستحــب جنونـــــــــــــي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4)
نازك الملائكة الرائدة والأكاديمية الناقدة التي كان لها دورها اللامع في إثراء الثقافة العربية الحديثة .. هي من جيل الرواد العراقيين العظام الذين كان لهم دورهم النهضوي والحضاري في القرن العشرين .. وكانت قصة اختيار هذا الاسم التركي لتسمية الطفلة أنها ولدت عقب الثورة التي قادتها الثائرة السورية “نازك العابد” على السلطات الفرنسية . وكانت الصحف إذ ذاك تطفح بأنبائها ، فرأى جد الطفلة أن تسمى نازك إكراماً للثائرة وتيمناً بها وقال : “ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد إن شاء الله.”
نازك الملائكة… نخلة عراقية سامقة من جيل الحداثة العربية الرائعة الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية ، أصبحت رمزا عراقيا شهيرا مرادفاً للشعر العربي الحديث.
في نداء إلى السعادة تقول نازك:
يا ضبابا من الشذى الشّفاف
يا جالا بلا حدود
يا رفيقا معطرا في ضفاف
أسدلي شعرك الطويل الطريا
خصلات من الحرير
وأريقي اشقرارها الغيميا
يطرش الكون بالعبير
وامنحينا رؤياك قبل الرحيل
يا ابنة الحب والخيال
لحظة عند نبعك المعسول
نغسل اليأس بالجمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5)
تناولت نازك مفهومي الحرب والسلام فكانت نصيرة للأمان وحب الحياة والإيمان بروعتها وسلامتها وضرورة ان يعيش الإنسان فيها بكل راحة وحرية وبعد عن المنغصات:
تقول نازك:
اجمعوا الصبية الصغار ليلقوا
أغنيات فجرية الأنغام
وليكن آخر اللحون التي تلقى
على سمعهم نشيد السلام
فيم هذا الصراع ؟ فيم الدماء الحمر
تجري على الثرى العطشان
والشباب البريء في زهرة العمر
لماذا يُلقى على النيران
في سبيل الثراء هذا ؟ أليس الضوء
والحب والورود ثراء
وليالي السلام والأمن هل في
العمر أغلى منها وأحلى ضياء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6)
في ديوان “شظايا” تكتب نازك عن النفس كمفهوم فلسفي تناوله الفلاسفة، عن غموض النفس في لوحة قل نظيرها . وتحيلنا في هذا إلى ماهية الذات أو ذوات الأشياء ، والماهية ببداهة هوكل ما يقال جوابا على ما هذا ؟
المبهم في روحي يبقى في إبهامه
دعه لا تسأل عنه ، عن أنغامه
دعني في ألغازي العليا ، في أسراري
في صمتي ، في روحي ، في مهمة أفكاري
في نفسي جزء أبدي لا تفهمه
حلم علوي لا تعلمه
ماذا يعنيك لتسأل في إصرار
الحب يموت إذا لم تحجبه أسرارْ
إني كالليل : سكون ، عمقٌ ، آفاق
إني كالنجم : غموض ، بعد ، إبراق
فافهمني إن فُهم الليل ، افهم حسي
وألمسني إن لُمس النجم ، ألمس نفسي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7)
نظمت نازك هذه القصيدة وقد نظرت إلى خارطة فلسطين، فتأثرت للأحداث فيها، وذكرت المدن الفلسطسنية وما تشتهر بها فقالت:
نامي على أهداب عيني يا خريطتها
ورفي في دمائي
إني نذرت لكي أكسّر قيدها زمني
نزيف دمي
غنائي
آفاقها سأخطها بالورد
أغرس عند (بيت المقدس) الدامي قرنفلة كبيرة
وأحيلها في عرض بحر من زهور الماء والدفلى جزيرة
وأشك عند حدود (عكا) زنبقة
حرّى الغلالة مغدقة
و(اللّد) أنفحها برفة وردة جورية
حمراء غذ ّ تها دماء شهيدة عربية
و(جنين) أعطيها شقائق غضة شفقية
ولـ (غزة) اختار سوسنة نضيرة
ولـ (كفر قاسم) ألف ليلكة أبعثرها وأجدلها ظفيرة
وعلى مشارف أرض (بيسان) سأزرع ياسمينة
وبنفسجات عند (حيفا)
عند (نابلس) الطعينة
ولدى مدينة (طولكرم) نرجسة
أصحي بها ذكرى أضاح كالمرايا مشمسة
أهداب عيني يا خريطتها، هنا، نامي عليها
إنني ما بين بياراتها الثكلى سجينة
أمطرتها وردا، وعاشت خلف أسوار انفعالاتي
مدائنها الجميلات الحزينة
حتى زرعت فؤادي الخابي الشموع
على خريطتها مدينة
(8)
يقول مارون عبود في معرض حديثه عن ديوان نازك الملائكة “عاشقة الليل”، هذه خنساء جديدة، ولكنها مثقفة، تطلع علينا في القرن العشرين بديوان شعر يدور حول موضوع واحد، كديوان خنساء الزمن الغابر. تلك ذوبت شعرها دموعا على أخويها، وهذه استحالت عواطفها شعرا حزينا كئيبا يصحّ فيه ما قاله ألفرد دي موسيه، “اضرب القلب فهناك الشعر الذي لا يموت”.
في مجموعة القصائد الصوفية تقول نازك:
الحب والعذاب قد باعاني
وعودي اشتراني
قطّرني قصيدة افتتان
صيّرني هنيهة في عمر الأغاني
وكوكبا مجرّحا أرساني
أشعلني ترتيلة، ورجح شمعدان
يا وجهه
يا رحلتي
يا عتمة الطريق
يا نجمة فوق جبيني ياشراع جفني الغريق
يا شفق الجرح، ويا ضبابة الريق
ملاكي الحارس؟ أم شيطاني؟
يا وجهه النائي عدوّ أنت أم صديق ؟
تورق في كياني
موتا، ونهرا مشمس الرحيق
يا غسقي، يا نكهة الرمان
يا جرحي الوريق
تسلم يا صومعة الأغاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9)
من ذكريات حرب رمضان (أكتوبر) سمعت نازك أن فرقة من الجيش المصري في سيناء كان أفرادها صائمين، وحان موعد الإفطار، وقد نفد الماء عندهم فراحوا يتضرعون إلى الله، فجاءت طائرات اسرائيلية وقصفت المعسكر فتفجر الماء من الأرض، حيث كانت أنابيب المياه اليهودية مدفونة. فشرب الجنود وأفطروا، فأوحى المنظر لنازك هذه الأبيات من قصيدة نظمتها عام 1974، وقد قارنت فيها بين موقف هاجر وإسماعيل عندما تركهم إبراهيم عليه السلام في واد ٍ غير ذي زرع، وبين موقف الجنود المصريين وهم يستعدون لحرب تشرين عام 1973م وقد انزرعوا في صحراء سيناء. فقالت نازك:
الله أكبر
يا صائمون ربكم قد سمع الدعاء
والطائرات أقبلت تهدر في الفضاء
تقذفكم صواعق وتمطر
على روابيكم لظى حرائق
تريد أن تغرقكم في برك الدماء
والله سبحانه يقدر
يدبّر
يمطر فوق صومكم أنداء
يسقيكمو من يد أعدائكم أحلى كؤوس الماء
والله للمؤمن ثلج مغدق في لهب الصحراء
ووجهه الغامر في شراسة النيران كوثر
وطوق ورد أحمر
وبلسم وماء
يا هاجر … الصبي إسماعيل سوف يرتوي
برحمة من ربّ… وتنطوي
دموعك المحمومة الحزينة
سيدفق الماء ويسقي سيله الغصن الكسير الملتوي
يرطّب الماء لإسماعيل
عينيه
يديه
فمه
جبينه
يعطيه ياسمينه
يا هاجر الحزينة