ناصر الدين الأسد وتحرير المصطلح السياسي والاقتصادي (1) / د. غسان إسماعيل عبد الخالق / الأردن

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
مراجعة في كتاب (نحن والآخر: صراع وحوار)
*ضريبة التميّز المبكّر
من جنايات أمّهات المصادر والمراجع، أنّها تربط مؤلفّيها بها، إلى الحد الذي قد تحجب كثيرًا من مؤلّفاتهم. وليس أدل على هذه الجناية من (مقدّمة) ابن خلدون وما فعلته بسائر كتبه، أو ما فعله (البيان والتبيين) بما تبقى للجاحظ من مؤلّفات. ولا ريب في أن (مصادر الشعر الجاهلي) قد ارتبط في أذهان الباحثين والنقاد باسم العلاّمة ناصر الدين الأسد، واتسع الكلام عليه وفيه وعنه، حتى كاد يحجب كثيرًا من مؤلّفاته المرموقة، وخاصة تلك المؤلّفات التي تجاوز فيها منطقة البحث الأكاديمي البحت، وحلّق باتجاه أجواء الفكر والسياسة والاقتصاد.
ورغم كل ما تنطوي عليه كتبه وأبحاثه الأكاديمية من رصانة وجدّة وجدل، إلا أن كتبه وأبحاثه في التعليم أو السياسة أو الاقتصاد، تنطوي على آراء وأفكار واستشرافات لامعة ونابهة، كونها تمثل خلاصة خبراته المتميزة في الإدارة الجامعية والثقافية، والعمل الديبلوماسي، والحوار بين الديانات والثقافات؛ فهو الأستاذ الجامعي المرموق، ورئيس الجامعة المؤسِّس، ووزير التعليم العالي الرائد، والسفير الناجح.
كل ما تقدّم، دفعني إلى الإسهام في تسليط بعض الأضواء على كتاب (نحن والآخر: صراع وحوار)، الذي يشتمل على كثير من التوجيهات، الفكرية والسياسية والاقتصادية، انطلاقًا من الحسّ اللغوي الاستثنائي الذي يتمتع به العلاّمة ناصر الدين الأسد.
*علَم يواصل مسيرة الأعلام
كغيره من أساتذة اللغة والأدب الكبار، فقد أدرك العلاّمة ناصر الدين الأسد حقيقة أن علماء اللغة والأدب، لا بد من أن يضربوا بسهم وافر في الفكر السياسي والاقتصادي، خاصة إذا تواجدوا في عصور القلق والاضطراب. فالسياسيون والاقتصاديون المحترفون المتفرغون لمزاولة السياسة تجرفهم الوقائع اليومية، ولا يجدون متسعًا من الوقت للتأمل في دقائق الألفاظ وخفايا التعبيرات، بل إن قصارى ما يطمحون إليه، هو إدارة العلاقات بين الألفاظ والتعبيرات على نحو واقعي ديبلوماسي، يحترم مصالح القوي، ولا يحرج مواقف الضعيف. وأما أساتذة اللغة والأدب الكبار، فيعنيهم كثيرًا تأصيل الأصول، وإنزال الألفاظ والمعاني والدلالات في منازلها، ناظرين بعيون الاعتبار الشديد إلى عوامل الجغرافيا والتاريخ والعرق والثقافة.
لقد حفل التاريخ العربي الإسلامي بمثل هذه النماذج العلمية اللامعة التي رفدت المعرفة بالعديد من القيم الفكرية المضافة، وأحدثت فائضًا حقيقيًا في رأسمالها، مثل الجاحظ وابن قتيبة وابن خلدون وطه حسين. ولن نحتاج إلى كثير من الجهد كي نؤكد حقيقةَ أن دافع هؤلاء قد كان على الدوام التصدي لإماطة اللثام عن وجه الصواب في التفاصيل الجزئية، أو في التعميمات الكليّة؛ فقد وظَّف الجاحظ وابن قتيبة معرفتهما اللغوية في سبيل تحليل مفهوم البيان العربي المتحضّر، وتفكيك مقولات الشعوبيين التي تحولت إلى صور نمطية كادت تضع الشخصية العربية والبلاغة العربية بين هلالي البداوة الساذَجة الجافية. ووظَّف ابن خلدون معرفته اللغوية لتحليل مفاهيم العصبية والدولة والعمران، وإعادة بنائها من منظور واقعي عملي. وعلى خطى هؤلاء سار الدكتور طه حسين فوظَّف معرفته اللغوية لتحليل مفهوم مدوّنة العرب الشعرية والدعوة لإعادة بنائها من منظور الشك الإيجابي.
وشاءت الأقدار، أن يكون العلاّمة ناصر الدين الأسد، شاهدًا على عقود ماجت بفتن ومآس وأحداث سياسية كموج البحر، وتداخلت فيها عوامل الداخل العربي الضعيف المستضعَف بعوامل الخارج الأجنبي القويّ المستقوي، فلم يؤثر هدأةَ البال وراحة النفس –كما آثر غير قليل من الأكاديميين الكبار- بل ألقى بنفسه في خضم هذا الموج الهادر، إيمانًا منه بأن صدقة العلم إنما تتمثل فيما يراكمه العالم من مواقف سياسية وفكرية فارقة في زمن اختلاط الأوراق وتمازج الأبيض بالأسود.
*حروب المصطلحات!
طالما استوقفني كتاب ناصر الدين الأسد (نحن والآخر: صراع وحوار). لما اشتمل عليه من طروحات سياسية واقتصادية وفكرية ذات عمق لغوي مصطلحي. والكتاب –لمن لا يعلم- هو في الأصل مجموعة من المحاضرات التي دعي الأسد لإلقائها في الأكاديمية الملكية المغربية، ثم نسّقها، وأصدرها في كتاب جاء في مفتتح ومقدمة موجزة وسبعة فصول تدثّرت على التوالي بهذه العناوين: (من اتفاقية سايكس بيكو إلى حرب الخليج)، (الشرعية الدولية والاستعمار الجديد)، (الديمقراطية وحقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية)، (الإسلام والتفاعل الحضاري: حوار أم صراع؟!)، (الاتحاد الأوروبي والعرب)، (الشراكة –الثقافية الاجتماعية والإنسانية الأوروبية المتوسطة)، (الهوية والعولمة).
ولعل من تمام التوفيق، أن الأسد خصّ “المصطلح” بالشرح والتفصيل، وهو ما يجعل كلامنا على المصطلح السياسي لديه، استنتاجًا منطقيًا، وليس إقحامًا أو اعتباطًا أو قسرًا. فها هو ذا يذكّر الكتّاب بضرورة فحص ألفاظهم ومصطلحاتهم، وتحديد معانيها وإيضاحها، والتأكد التام من أنها تؤدي المعاني المطلوبة، وذلك لأن الألفاظ والمصطلحات هي وسائل الكاتب كما هي الأدوات والآلات وسائل الحِرْفي والصانع. وبعكس ذلك، فإن الكاتب لا يعود قادرًا على الإبلاغ والإفهام. وكما أن اللفظ الواحد يمكن أن يستدعي معاني ودلالات متعددة تبعًا للسياق، فإن النصَّ الواحد يمكن أن يُوجّه توجيهات متعددة، تبعًا لمصالح الكتّاب والقرّاء، وخاصة في معترك العلاقات الدولية. بل إن العلاّمة الأسد يسترعي انتباهنا إلى حقيقة أن نصوص الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، يُقصد إلى تعويم معانيها ودلالاتها، حتى تحتمل أكثر من تفسير. وينوه على هذا الصعيد، بقدرة الإنجليز تحديدًا، على صياغة الرسائل والمعاهدات والقرارات، لتظلّ حمّالة أوجه، ويمكن الإفادة مما فيها من ثغرات وفجوات، إلى الحد الذي لا يتحفظ معه على ترديد قول من قال: إن اللغة تخفي من المعاني وتغطّي أكثر مما تظهر وتكشف، فهي أداة للتعمية لا للوضوح، ولإخفاء المقصود، وليس للتعبير عنه!! وليس أدل على ذلك من الألفاظ المجرّدة ذات المعاني المطلقة، فترى الناس يهتفون بها على غير بصيرة دون أن يتدبّروها. ولعمري فإن الهاتفين بالحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان في وطننا العربي كثر، لكن المتدبرين لمعانيها ودلالاتها وسياقاتها قليلون جدًا.
ويلمّ الأسد، بلغته وأسلوبه ومنهجه، بما سبق ل(ليوتارد) في عام 1979م، أن ألمّ به على صعيد وصف السرديات الكبرى وتحليلها وتركيبها، حيث من المعتاد أن تتنازع سرديتان على احتكار الصواب، واحدةٌ منهما تستند إلى حق متمكن أصيل، وثانيةٌ تستند إلى حق متوهّم مزعوم، فما تزال الثانية تردّد وتكرّر أوهامها حتى تبدو أكثر أصالة من الأولى، وذلك استنادًا إلى تحسين القبيح، وتقبيح الحسن عبر وسائل الإعلام والإشاعات، وتعبئة الجماهير.
ومن نافل الحديث القول بأن الصراع العربي-الإسرائلي يمثل النموذج الأبرز لسرديات العصر الحديث، من حيث اعتصام العرب بحقهم الأصيل في فلسطين واندفاع الصهاينة لادعاء حقهم الموهوم في فلسطين. مع ضرورة التذكير بتقصير العرب الفادح ماديًا ومعنويًا في دعم سرديتهم، ونجاح الصهاينة الباهر في تلفيق سرديتهم.
كل ذلك يدعو الأسد إلى التذكير والقطع بأن: (حرب المصطلحات والألفاظ حرب حقيقية، يخطط لها خبراء دهاة، وتسعّر أوارها وكالات الأنباء من خلال وسائل الإعلام بالخبر والتحليل والتعليق، ولا تلبث تكرر المصطلح حتى تشيعه بين الآخرين، ويستقر في عقولهم ونفوسهم، فتستكين له تلك العقول والنفوس وتخضع، ومن كثرة تكراره تألفه، وتأخذ هي في ترداده مع أنه وضع أصلاً لغزو أولئك الآخرين وغزو عقولهم ونفوسهم وإضعافها)!
وللتدليل على ما يمكن للتلاعب بالألفاظ -حين تصبح مصطلحات- أن يؤدّيه من لبْس، يضرب الأسد مصطلح (الشرعية) مثلاً باهرًا وساخرًا؛ فهو مأخوذ من (الشّرْع).. أي الوضوح والظهور والقرب، ثم صار (الشّرْع) مصطلحًا على القانون والأنظمة والمبادئ التي يشرّعها الشارع.. أي الله عزّ وجلّ. ولا يتحرج الأسد من استعمال مصطلح (التشريع) لما يستحدثه الناس من قوانين ومبادئ، سواء أكانوا يمثلون (السلطة التشريعية) أو الأقطار أو الأطراف المشاركة في التوقيع على المعاهدات والاتفاقيات والقرارات الصادرة عن المجالس والمحافل الدولية. لكنه سرعان ما يستدرك قائلاً: (ما أبعد هذا المصطلح أحيانًا عن أصل معناه اللغوي ودلالته الدينية. فكثيرًا ما يكون مناقضًا للوضوح والظهور والقرب، ويصبح حينئذ أداة في يد أصحاب السلطة، يستخدمونها ل”تنظيم” أساليب القهر لشعوبهم تحت ستار من “سيادة القانون” وهو شعار يرفعونه ليُكسبوا أحكامهم ومواقفهم “شرعية” قانونية ومسلكًا ديمقراطيًا…إلخ)! بل هو ينفذ إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك كله حينما يقطع بأن “الشرعية” ما هي إلا مطيّة لمنطق القوة والمصلحة، وليس مظلّة للحق والعدل؛ فكم من شرعية تدثرت بالحق والعدل، وتزيّت بالوضوح والظهور من باب التنكّر والتخفي حتى لا تظهر وجهها الغاشم، على أيدي (مصممي أزياء الألفاظ والأفكار) المحترفين -من خبراء دعاية وإعلام وعلماء نفس واجتماع- الذين فصّلوا مثلاً مصطلح (حقوق الإنسان) ليكون ذريعة للتدخل في شؤون الدول الضعيفة، على غرار مصطلحات سابقة مثل “حماية الرعايا الأجانب” و”حفظ التوازن الدولي”. وبهذه الطريقة سُوِّق علينا مصطلح “إزالة آثار العدوان” بدلاً من “إزالة أسباب العدوان”، واستبدل مصطلح “التسوية” بمصطلح “تحرير الأرض”، ومصطلح “التسفير” بمصطلح “الطرد”.