ناقد تونسي يغامر في قراءة أشعار الحب المصرية ونشيد الإنشاد

عواد علي

تتوجه فصول كتاب “خطاب الرغبة والآخر” للناقد التونسي مصطفى الكيلاني إلى موضوع المحبة تشابها واختلافا بين أشعار الحب المصرية القديمة ونشيد الإنشاد في التوراة للاستدلال به على إنسانية الرغبة عموما، وصفتها الخصوصية بالفرد المُحب، وبرؤية المجموعة التي ينتمي إليها، بما يتكرر حالا ويختلف صفات حسب تغاير السياقات الفردية والثقافية.

وللترجمة وجه آخر للرغبة حرصا على معرفة الآخر للاستثراء بتجاربه الفكرية والإبداعية، وبلوغ مواطن الاشتراك فـي تمثّل قضايا الوجود الإنساني الكبرى، إذ ليست مجرّد قراءة لهذا الآخر، وإنما هي قراءة إشكالية بين لغتين وثقافتين مختلفتين لإنتاج نص ثالث هو ذلك المختلف عن كل من النص الأصلي والنص المترجَم.

ومثلما تتحدد الرغبة بالمحبة تُسفر عن النقيض، شأن الكراهية فـي علاقات الأفراد بعضهم بعضا، وكذلك الشعوب، كأن نحتاج إلى وصل ذاكرتنا بذاكرة الآخر بضرب من الترائي الذي قد يساعدنا على تجاوز الأحقاد والتأسيس لنسيان مُخصّب نتحرّر به من آثار الدم المتبقية الموجعة ويحفز الآخر، كما يحفزنا، على الاعتراف بالإثم مقابل الصفح بوعي وإرادة حرة كي ينشأ عن ذلك حوار جديد لا إلزام فيه ولا تضليل.

الصوت والصدى

في التركيز على الفصل الأول من الكتاب، الصادر حديثا عن دار “أزمنة للنشر والتوزيع” في عمّان، نجد الكيلاني يقرأ، وفق منهج تفكيكي، تأثر نشيد الإنشاد التوراتي بأشعار الحب المصرية القديمة، قراءة متأنية، تبعا لتواصل النص اللاحق وتداخله وتفاعله مع النص اللاحق أسلوبا ودلالة، مبيّنا أن ما يظهر صوتا ثنائيا أو أحاديا في تلك الأشعار المصرية يستحيل إلى صوت ثلاثي في نشيد الإنشاد بلاعبيّة إنشادية تراوح بين الصوت والصوت المختلف، وبين الصوت والصدى، وبين الغناء والترجيع.

وفي ذلك تنويع وتلوين، مراوحة بين التفريد والتكثير، ليتشابه الإنشادان السابق واللاحق من غير أن يتماثلا، بل يختلفان قصدا وأداء غنائيا لمفرد المحبة، ربما، أو نزوعا إلى الابتهال بما يتخطى دائرة التواصل العشقي المعتاد إلى قداسة التمثّل.

النصان، كما يرى الكيلاني، يلتقيان معا، وإن اختلفا زمنا وثقافة، في أداء الرغبة بموضوع المحبة الذي يستدعي في مجال التمثّل الإنساني لها مواقف ثلاثة أجملها جورج باتاي بـ”إيروسية الأجساد” و”إيروسية القلوب” و”إيروسية المقدّس”. ويتساءل الكيلاني “كيف تُؤدّي أشعار الحب المصرية القديمة ونشيد الإنشاد التوراتي الرغبة تحديدا؟ هل بالإيروسيات الثلاث المذكورة أم باثنتين منها أم بإحداها؟ وهل الاختلاف الدلالي بخصوص أداء الرغبة قائم بين كل من النصين، السابق واللاحق؟

ورغم تأكيد الكيلاني على أن مرجع نشيد الإنشاد ليس أشعار الحب المصرية القديمة فقط، بل تمكن إحالته إلى أناشيد الحب السومرية أيضا، حسبما ذهب صامويل نوح كريمر، فإن ترتيب المراجع في تناديها وتصاديها، في تقديره، وحسب عدد من الإشارات الماثلة في نص نشيد الإنشاد، يضع أشعار الحب المصرية القديمة في موقع الصدارة قبل أشعار الحب السومرية، وقد تبيّن له هذا أسلوبا بالحوارية الإنشادية في كل من النصين السابق واللاّحق، وما تأكّد من التحليل والتأوّل بمجموع دلالات ظاهرة وخفية يتحدّد بها أداء المعاني الإيروسية في توصيف الرغبة عند السابق واللاّحق.
إن الظاهرة الإنشادية، في رأي الكيلاني، تُعتبر أهم علامات التنادي والتصادي بين نشيد الإنشاد اللاّحق وأشعار الحبّ المصرية القديمة السابقة، وإن اختلف النصان في عدد من الأساليب والمقاصد الدلالية المعلنة والخفية. وللتدليل على التواصل بين النصين يعرض مقارنة جدولية بين الأساليب والدوال، من ناحية التشابه والاختلاف، فمن الناحية الأسلوبية يتشابه النصان في: التخاطب، وإسناد الخطاب إلى غائب: الحبيب يذكر حبيبته أو الحبيبة تذكر حبيبها،

وعند كل قول وصف للذات وللآخر، وتكرار الصفات لفظا ومعنى، والنفس الغنائي، واطّراد الحركة الإنشادية باستخدام إيقاع التكرار لفظا وتركيبا ومعنى، واستخدام المعجم الطبيعي عند وصف الجمال الجسدي للمرأة، وتشبيه القبلة والفم والشفتين بالخمر والعسل واللبن.
أشعار حب قديمة

يختلف النصان في أن أشعار الحب المصرية القديمة تتشكّل من جامع إنشادي واحد، وتقوم على الحوار بين (هي- هو)، بينما يتكون نشيد الإنشاد من نشيدة واحدة بمراجع إنشاد من أوقات وسياقات مختلفة، ويقوم الحوار فيه على (هي- هو زائد صوت بنات أورشليم)، وكذلك غياب الوصف الجسدي للرجل، والنزوع وصفا إلى الحس تجسيدا لحال لذّية في أشعار الحب المصرية القديمة، في حين يتجه الوصف الجسدي للرجل في نشيد الإنشاد إلى الأشياء الصلبة من جواهر وغيرها، ولا يعتمد أشياء الطبيعة.

ومن الناحية الدلالية يتشابه النصان في توكيدهما على أن المحبة تقوم على محبوب واحد، وقد يعني القصد الاحتفالي من إنشاد المحبة زواجا مقدّسا، والتفاني في محبة الآخر، وتشبيه المحبة في أقصى حالاتها بالموت، والمرض حُبّا، في حين يختلفان في جملة من الأمور منها: أن أشعار الحب المصرية القديمة تشير، مكانيا، إلى أرض مصر، والبعد التخييلي حاضر في ما وراء الخطاب، وتعتمد التعريف بالتنكير (هو- هي)، ويأتي أداء القصد الجمالي الأدبي في المقام الأول ثم العقدي.

أما نشيد الإنشاد، فإنه يشير إلى لبنان وسوريا على وجه الخصوص، وذلك بهدف التوجيه السردي الذي يُراد به إثبات واقعية الأحداث. كما أن البعد التحسيسي حاضر في ما وراء الخطاب ويعتمد التعريف بالتسمية (سليمان- شولمّيث).

ويخلص الكيلاني في مقارنته بين النصين إلى أن الظاهرة الإنشادية لا تنحصر في وظيفة الأداء العقدي الابتهالي فيهما، بل تشمل مختلف الديانات القديمة، وهي وليدة الحرص على التسامي والتجريد بالصوت المُغنّى يعلو مثلما يعمق بفعل الفرد والجماعة. كما أنها محاولة تجسيد لفعل التنادي بين السماء والأرض، عبر سلسلة من الأسماء التجسيدية والرمزية في الوقت ذاته.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى